‏إظهار الرسائل ذات التسميات الجغرافية البيئية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الجغرافية البيئية. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 16 يناير 2015

الـتنمية المسـتدامة .. بين الحق في استغلال الموارد الطبيعية والمسؤولية عن حماية البيئة





مقدمة
شهد العالم خلال العقود الثلاثة الماضية إدراكا متزايدا بأن نموذج 
الـتنمية المسـتدامة .. بين الحق في استغلال الموارد الطبيعية والمسؤولية عن حماية البيئة

التنمية الحالي (نموذج الحداثة) لم يعد مستداما، بعد أن ارتبط نمط 
الحياة الاستهلاكي المنبثق عنه بأزمات بيئية خطيرة مثل فقدان 
التنوع البيئي، وتقلص مساحات الغابات المدارية، وتلوث الماء والهواء، 
وارتفاع درجة حرارة الأرض(الدفء الكوني)، والفيضانات المدمرة
 الناتجة عن ارتفاع منسوب مياه البحار والأنهار، واستنفاد الموارد 
غير المتجددة، مما دفع بعدد من منتقدي ذلك النموذج التنموي
 إلى الدعوة إلى نموذج تنموي بديل مستدام يعمل على تحقيق الانسجام

 بين تحقيق الأهداف التنموية من جهة وحماية البيئة واستدامتها من جهة أخرى. وفي هذا السياق يشير كل من سوزان وبيتر كالفرت إلى أن البشرية تواجه في الوقت الحاضر مشكلتين حادتين، تتمثل الأولى في أن كثيرا من الموارد التي نعتبر وجودها الآن من المسلمات معرضة للنفاد في المستقبل القريب، أما الثانية فتتعلق بالتلوث المتزايد الذي تعاني منه بيئتنا في الوقت الحاضر والناتج عن الكم الكبير من الفضلات الضارة التي ننتجها. ونتيجة لذلك فقد أسهمت الضغوط المشتركة لكل من ازدياد الوعي بالندرة القادمة وتفاقم مشكلة السّمية في العالم إلى بروز مسألة الحفاظ على البيئة واستدامتها كموضوع مهم سواء في مجال الفكر أو السياسة (كالفرت و كالفرت 2002: 423). ففي المجال الفكري أسهم الشعور بالوضع المتدهور لبيئة الأرض في ظهور حقل معرفي جديد يعرف بالسياسة الإيكولوجية Ecopolitics التي عرّفها جيوماريز Guimaraes   على أنها "دراسة الأنساق السياسية من منظور بيئي"، والذي يعني أن الإلمام بعلم الطبيعة يعتبر بنفس أهمية الإلمام بالعلوم الاجتماعية والثقافية والسياسية عند دراسة الأنساق الإيكولوجية وقدراتها(نقلا عن: كالفرت وكالفرت 2002: 423). ولذلك فإن شيوع فكرة التنمية المستدامة في أدبيات التنمية السياسية منذ منتصف ثمانينات القرن العشرين مثل في جزء منه محاولة لتجاوز إخفاق النظرية السلوكية في مجال التنمية، التي تبنت نموذج الحداثة، والبحث عن نموذج جديد يعمل على التوفيق بين متطلبات التنمية والحفاظ على بيئة سليمة ومستدامة.
أما على المستوى السياسي فقد بدأ المجتمع الدولي، منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي، يدرك مدى الحاجة إلى مزيج من الجهود السياسية والعلمية لحل مشاكل البيئة وعندها أصبح مفهوم التنمية المستدامة يمثل نموذجا معرفيا للتنمية في العالم، وبدأ يحل مكان برنامج "التنمية بدون تدمير" Development without Destruction الذي قدمه برنامج الأمم المتحدة للبيئة UNEP في السبعينات ومفهوم "التنمية الإيكولوجية" Ecodevelopment الذي تم تطبيقه في الثمانينات. ووصل الاهتمام العالمي بالقضية البيئية ذروته مع تبني مفهوم التنمية المستدامة على نطاق عالمي في مؤتمر قمة الأرضEarth Summit  الذي عقد في مدينة ريو دي جانيرو عام 1992م. وقد برز هذا الاهتمام العالمي بقضية البيئة بوضوح في تأكيد منهجية التنمية الإنسانية، وفقا لتقرير التنمية الإنسانية العالمي الصادر عام 1995، على عنصر الاستدامة، من خلال التأكيد على عدم إلحاق الضرر بالأجيال القادمة سواء بسبب استنزاف الموارد الطبيعية وتلويث البيئة أو بسبب الديون العامة التي تتحمل عبئها الأجيال اللاحقة أو بسبب عدم الاكتراث بتنمية الموارد البشرية مما يخلق ظروفاً صعبة في المستقبل نتيجة خيارات الحاضر(UNDP 1995).
وتحاول حركة الاستدامة اليوم تطوير وسائل اقتصادية وزراعية جديدة تكون قادرة على تلبية احتياجات الحاضر وتتمتع باستدامة ذاتية على الأمد الطويل، خاصة بعدما أتضح أن الوسائل المستخدمة حاليا في برامج حماية البيئة القائمة على استثمار قدر كبير من المال والجهد لم تعد مجدية نظرا لأن المجتمع الإنساني ذاته ينفق مبالغا وجهودا أكبر في شركات ومشاريع تتسبب في إحداث مثل تلك الأضرار. وهذا التناقض القائم في المجتمع الحديث بين الرغبة في حماية البيئة واستدامتها وتمويل الشركات والبرامج المدمرة للبيئة في الوقت نفسه هو الذي يفسر سبب الحاجة الماسة لتطوير نسق جديد مستدام يتطلب إحداث تغييرات ثقافية واسعة فضلا عن إصلاحات زراعية واقتصادية.
مشكلة الدراسة
مثلت التطورات العلمية التقنية خلال النصف الثاني من القرن العشرين قاعدة أساسية لتشكل حالة جديدة من الحضارة الإنسانية تميزت بتحقيق إنجازات مذهلة في تقنيات الحاسوب ووسائل الاتصال فضلا عن عدد آخر من الإنجازات التقنية التي حازت على اهتمام كثير من المراقبين، لكنها في الوقت نفسه أهملت المشاكل المتعلقة بفرص بقاء الإنسانية في ظروف الأزمات البيئية الكونية المصاحبة لهذه الحالة الجديدة من الحضارة حيث يمكن ملاحظة الانخفاض النسبي في اهتمام كل من الجماعة العلمية والمجتمع السياسي بتلك المشاكل خاصة في ظل غياب طريق واقعي لحل مثل تلك المشاكل البيئية.
ففي النصف الثاني من القرن العشرين تبنت غالبية الدول الصناعية المتقدمة طريق التقدم المتنامي في العلم، والتقنية، وأساليب الإنتاج مما أدى إلى بروز ما أصبح يعرف بمجتمع المعلومات أو المجتمع ما بعد الصناعي الذي لم يعد يعتمد على نشاط الأفراد ولا على المجتمع ككل بقدر اعتماده على فرضية قدرة البشر على السيطرة على ذلك التقدم. وقد أرتبط تدشين مجتمع المعلومات هذا في الدول الصناعية المتقدمة بهيمنة فكرة "التفاؤل التقني" “technological optimism” التي بشر بها نموذج الحداثة التنموي والتي  تفترض أن بزوغ فجر عصر التقنية يمثل إيذانا بعصر خال من المشاكل سواء في المجال الاجتماعي أو الاقتصادي، فضلا عن المجالات الأخرى ومن بينها المجال البيئي. إلا أن التطورات غير المنضبطة المصاحبة للتقدم الصناعي قد أسهمت من جانب أخر في تنامي سلسلة من المشاكل ذات الطابع البيئي، حيث أضحت قضايا التدهور البيئي، والتصحر، والفقر، وعدم المساواة الاقتصادية، والدفء الكوني، والانفجار السكاني، وتزايد معدلات انقراض الكائنات الحية بشكل مخيف، والأمطار الحمضية، واستنفاد طبقة الأوزون، وتلوث الماء والهواء والأرض تمثل واقعا مؤلما ملازما للحياة في العصر الحديث وخاصة مع تعزيز نموذج الحداثة المعولم والتقنيات المتطورة لقدرة البشر على الأضرار بالبيئة وببعضهم البعض بوتيرة لم يسبق لها مثيل.
ويطرح بروز هذه المشاكل البيئية وتفاقم حدتها عدة تحديات غير منظورة للعلوم الاجتماعية وللاهتمامات اليومية للمواطنين والحكومات والمصالح الخاصة، حيث لم يعد ما يواجهه العالم اليوم محصورا في الحالة التي صورها تقرير نادي روما الصادر عام 1972م بعنوان " حدود النمو The limits to growth" والمتمثلة في استنزاف الموارد الطبيعية(Meadows 1972) التي يمكن مواجهتها وإن كان بطريقة محدودة وغير كفؤة، من خلال إحلال رأس المال الطبيعي برأس مال مادي، سواء من خلال ابتكار منتجات جديدة تستبدل الموارد التي توشك على النفاذ (مثل استبدال النفط بالهيدروجين في مجال المواصلات) أو بواسطة تقنيات جديدة توسع نطاق المخزونات الحالية (الآت أكثر كفاءة في استخدام الطاقة)، بل إن ما يواجهه العالم اليوم يمثل ظروفا مختلفة بشكل جذري. ولذا يجب على المؤسسات القائمة أن تتعامل مع هشاشة الأنساق والعمليات الحيوية التي لا يمكن استبدالها بغيرها. فلا يمكن استبدال طبقة الأوزون، أو الاستقرار المناخي مثلا إلا عندما نجد كوكب آخر بديل يمكن للقاطنين على الأرض الهجرة إليه عندما تنقرض العمليات الطبيعية التي تدعم الحياة على الأرض!!
وبسبب تعاظم خطر تلك المشاكل من جهة وتقلص نسبة الموارد على الأرض وإضعاف قدرتها على تجديد ذاتها من جهة أخرى فإن هناك حاجة ملحة لترشيد التعامل الإنساني وذلك لأن نموذج الحداثة القائم الذي يعمل على الإيفاء بالاحتياجات المادية الحالية مع تجاهل تام للبيئة وللمستقبل لم يعد ملائما ولا كفؤا على المدى الطويل.
        ويتمثل إسهام هذه الدراسة في توظيف كل من المنهج الوصفي والمنهج التحليلي النقدي لدراسة وتحليل أدبيات واتجاهات التنمية المستدامة من اجل تحقيق الأهداف التالية:
1- الاستعراض النقدي لمفهوم الحداثة والنتائج السلبية المترتبة على تبنيه في نظرية التنمية وخاصة في مجال البيئة.
2-   التعريف بمفهوم التنمية المستدامة.
3-   التعريف بوجهات النظر المختلفة حول الأزمة البيئية وسبل مواجهتها.
4-    استعراض الجهود الدولية حيال تبني تنمية أكثر استدامة.
5-   تقديم بعض التوصيات والاقتراحات فيما يتعلق بحماية البيئة والعمل على استدامتها.
نموذج الحداثة والتدهور البيئي
يشير التدهور البيئي الذي حدث معظمه خلال القرن الماضي إلى أن النموذج الاقتصادي المهيمن (الليبرالية الرأسمالية) هو "اقتصاد استخلاصي" يستنفد الموارد غير المتجددة، ويستغل الموارد المتجددة بدرجة أكبر من قدرتها على البقاء، ويتسبب في تغيير كيمائية الأرض وتشويه النظم البيئية عليها متسببا في حدوث أضرار لا يمكن إصلاحها لكل من الأرض والماء والهواء )انظر: (Coates 2003b:44-66.  ولذا يمكن القول أن الاستغلال المفرط والتدمير المصاحب للتنمية هما نتاج للمجتمع الصناعي الحديث، وبخاصة منظومة قيمه ومعتقداته وبناءه السياسي. فبرغم أن لهذا النسق الاعتقادي "الحداثة" إنجازات عديدة إلا أن له جانبه المظلم أيضا متمثلا في الظلم الاجتماعي وإفساد البيئة، إلا أن معظم الناس منغمسون جدا في نموذج الحداثة هذا إلى درجة أنهم غير قادرين على إدراك أن "البناءات والعمليات التي تقوم عليها الحياة اليومية هي السبب في الدمار البيئي والظلم الاجتماعي" (Coates 2003a:27).
ويبدو أن الأسباب الرئيسة وراء قلة الاهتمام أو التصرف تنبع من ترسخ مجموعة معينة من القيم والمعتقدات والافتراضات القوية جدا ضمن نموذج الحداثة المهيمن والتي تحدد وتوجه الفعل الفردي والعام وتقف في طريق تطوير الناس والحكومات، وخاصة في الدول المتقدمة لاستجابات فعالة لتعزيز العدالة الاجتماعية والسلامة البيئية والانخراط فيهما. حيث يضع هذا النسق الاعتقادي المعروف "بالحداثة" ثقة مطلقة في التقنية والعلم، ولديه ثقة لا تتزحزح في النمو الاستهلاكي واقتصاد السوق. وقد عبر بول هاوكن Hawken عن هذا الأمر جيدا عندما صرح بأن الحداثة قد "أنتجت و بشكل طبيعي ثقافة تجارية مهيمنة تعتقد بأن كل حالات انعدام المساواة سواء الاجتماعية أو في الموارد يمكن حلها من خلال التنمية، والابتكار، والتمويل والنمو – النمو دائما" (Hawken 1993: 5).
وفي هذا السياق قدمت شارلين سبرتناك Spretnak وصفا لخصائص هذه الحداثة يتضمن مايلي:
1- Homo Economicus  / أي أن الأولوية فيه تكون للرفاهية الاقتصادية التي ستقود إلى تحقيق الرفاهية في مجالات الحياة الأخرى.
2- النزعة التقدمية/ أي أن التقنية ستجد حلولا لكل المشاكل وأن الحالة الإنسانية سوف تتحسن بالتدريج من خلال الوفرة.
3- النزعة التصنيعية/ أي أن الإنتاج على نطاق واسع سيؤدي إلى تحقق الوفرة والتي بدورها ستؤدي إلى خلق نزعة استهلاكية.
4- النزعة الاستهلاكية/ إي أن استهلاك السلع المادية هو مصدر السعادة البشرية.
5- النزعة الفردية/ التي تشير إلى التنافس على المنفعة الفردية وإعطاء المصالح الفردية أولوية على المصالح العامة (Spretnak 1997:40-41).     
ويعكس هذا التحيز المتأصل المعتقدات التي دفعت نحو الاستعمار، والتنمية الصناعية والاقتصادية، فضلا عن طريقة الاستجابة للمشاكل الاجتماعية والبيئية الناتجة عن ممارساتها. وضمن هذا النموذج المتمركز حول الإنسان (الأوربي غالبا) نظر إلى الأرض على أنها مجرد مصدر وافر وغير ناضب للسلع، وركزت عملية التقدم بشكل أعمى على تحويل الموارد الطبيعية (بوساطة التقنية) إلى سلع استهلاكية تتحول بشكل سريع جدا إلى نفايات. وبالفعل فإنه ينظر للاقتصاد المزدهر على أنه "اقتصاد متوسع" ينتج سلع مادية كثيرة لتستهلك ومن ثم يتخلص منها. وأعتبر الإبداع الإنساني من خلال التقنية قادرا على حل كل المشاكل مما يمكن التقدم من الاستمرار بدون توقف.
وقد هيمن هذا التركيز على دور الاقتصاد والنمو الاقتصادي على صناعة القرار الاقتصادي والسياسي، حيث أصبح الاقتصاد أساس المعنى والعلاقة في المجتمع الحديث (Rogers 1994: 86). فالنزعة الاقتصادية قوية جدا إلى حد النظر للاقتصاد كحقيقة ثابتة بدلا من أن يكون وسيلة لتحقيق حال أفضل. وضمن هذا النسق الإعتقادي تصبح النقود ومالكيها هي السلعة الأسمى، وتطغى معايير الحياة المترفة المسرفة المدفوعة بالنزعة الاستهلاكية الواسعة على كل الاعتبارات الأخرى، ويصبح السوق هو المحدد الأساسي لما يحدث في المجتمع، ويتعزز الاعتقاد بأن الوفرة (من خلال الإنتاج والاستهلاك الواسعين) ستحل كل المشاكل. ومن جانبها ساهمت وسائل الإعلام، وبخاصة التلفاز، الذي أصبح الأداة الرئيسة للتنشئة الاجتماعية في المجتمع الصناعي الحديث في التأكيد على أولوية الثروة والنقود في تحديد مكانة الفرد في المجتمع (see for instance: Durning 1991: 153-169). ونتيجة لهذا الوهم المضلل الذي نشأ من خلال هذا الاعتقاد في التقدم والتنمية وخرافة التطور الإنساني يؤكد  رسل Russell  "أننا نستهلك الآن في سنة واحدة أكثر مما أستهلكه الإنسان في كل الفترة الممتدة منذ ميلاد المسيح وحتى فجر الثورة الصناعية" (Russell 1998:43).
وبالرغم من حدة وكثافة الانتقادات لذلك النموذج وتنامي الاهتمام الشعبي بالقضايا البيئية إلا أن الناس بشكل عام وكذلك الشركات والحكومات مازالوا يفتقرون لأي دافع لأخذ تلك القضايا على محمل الجد ومن ثم لم ينخرطوا في عمل فعال باتجاه ممارسات مستدامة. وفي ظل غياب رؤية بديلة فإن الاعتقاد في التميز والتقدم والإبداع التقني الإنساني يسهم في خلق مجتمع راض عن/ أو يقبل بالاستغلال البيئي والاجتماعي.
 ولذا فمن الضروري الاعتراف بأن القضايا البيئية هي قضايا اجتماعية وثقافية وأنه في ظل غياب التحليل النقدي للمعتقدات الأساسية والأطر السياسية الاجتماعية للمجتمعات الصناعية لن يكون هناك مبادرات ناجحة تجاه العدالة الاجتماعية والبيئية، ولن يصبح المجتمع الحديث في وضع يسمح له بالتكيف مع رؤية عالمية بديلة وبناء سياسي وثقافي واجتماعي قادر على دعم بروز مجتمع مستدام بيئيا وتنمويا.           
ومن الواضح أنه لا يمكن إيجاد مجتمع عادل بيئيا واجتماعيا عندما تكون الحياة الاجتماعية فيه واقعة تحت هيمنة وتأثير قوى السوق، والربح، والنمو الاقتصادي، ومعايير الرفاهية المتنامية، كما أن النزعة الاستهلاكية غير المقيدة تؤدي إلى استغلال غير مقيد. وبناء  عليه فإن معالجة تلك القضايا يتطلب تفكيرا جديدا يعترف بالعلاقة المتداخلة بين الإنسان والبيئة في ظل التنمية المستدامة التي توازن بين التغير الإبداعي والتقدمي، والمحافظة على البيئة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتعزيز سعادة الأفراد، والمجتمع، وتستطيع المعايير والمؤسسات العامة فيها الحفاظ على نوع من التضامن الاجتماعي الذي يمكن من خلاله المساهمة في سعادة وخير الجميع.
باختصار يمكن القول أن الاهتمام المتنامي بتلك التحديات لنموذج الحداثة التنموي قد أدى إلى قبول واسع النطاق لمفهوم جديد - التنمية المستدامة- يؤكد على حماية البيئة وتحقيق مزيد من العدالة الاجتماعية مما حدا بالكثير من المشتغلين بالفكر التنموي إلى عده بمثابة نموذج إرشادي جديد new paradigm  للتنمية. ولكن ما المقصود بمصطلح التنمية المستدامة؟   
تعريف التنمية المستدامة
يبدو أن التنمية المستدامة هي التي تصيغ اليوم الجزء الأكبر من السياسة البيئية المعاصرة وقد كان للعمومية التي اتصف بها المفهوم دورا في جعله شعارا شائعا وبراقا مما جعل كل الحكومات تقريبا تتبنى التنمية المستدامة كأجندة سياسية حتى لو عكست تلك الأجندات التزامات سياسية مختلفة جدا تجاه الاستدامة، حيث تم استخدام المبدأ لدعم وجهات نظر متناقضة كليا حيال قضايا بيئية مثل التغير المناخي والتدهور البيئي اعتمادا على زاوية التفسير، فالاستدامة يمكن أن تعني أشياء مختلفة، بل متناقضة أحيانا، للاقتصاديين، وأنصار البيئة، والمحامين، والفلاسفة. ولذا يبدو أن التوافق بين وجهات النظر تلك بعيد المنال.
كذلك وبالنظر إلى أن إنجاز التنمية المستدامة يتطلب أمرا من اثنين، إما تقليص حجم طلب المجتمع على موارد الأرض و/ أو زيادة حجم الموارد حتى يمكن على الأقل تجسير الفجوة بين العرض والطلب إلى حد ما، فإن هذه العملية الهادفة إلى التوحيد التدريجي للمطلوب من الموارد والمعروض منها – الجوانب المتجددة وغير المتجددة من الحياة الإنسانية- هي التي تحدد ما المقصود بعملية التنمية المستدامة. ولكن كيف يمكن الدمج بين المطالب والموارد؟ إن هذا السؤال أو على وجه التحديد الإجابات على هذا السؤال هي التي تنتج معاني وتعريفات متنوعة ومتنافسة للتنمية المستدامة، وذلك لان مسألة كيفية دمج المطالب والموارد يمكن أن يجاب عليها بعدة وسائل مختلفة، وذلك تبعا لاختلاف رؤى أطياف الفكر البيئي حيث هناك من جهة كتّاب يحاولون تعديل جانب الموارد من العلاقة بينما يقف في الجهة الأخرى كتاب يركزون على تغيير جانب الطلب.
ولذلك فبرغم الالتزام الدولي تجاه التنمية المستدامة وبرغم أنها قد تبدو للوهلة الأولى واضحة إلا أنها قد عرفت وفهمت وطبقت بطرق مختلفة جدا، مما تسبب في درجة عالية من الغموض حول معنى المفهوم الذي يعتبر من المفاهيم الصعبة، والمراوغة، والمخادعة. ويشار في هذا السياق إلى أن (Fowke & Prasad 1996: 61-6)   قد أوردا أكثر من ثمانين تعريفا مختلفا وفي الغالب متنافسا وأحيانا متناقضا للمفهوم. وتكمن مشكلة مفهوم التنمية المستدامة في أنه يتأثر بعلاقات القوة بين الدول وداخلها وهذه الحقيقة تتطلب مراجعة نقدية للمفهوم. فمن الواضح أن علاقات القوة هي التي تصيغ المعاني واللغة التي يستخدمها الناس.
ولكن إذا نظرنا إلى الحد الأدنى من المعايير المشتركة للتعريفات والتفسيرات المختلفة للتنمية المستدامة يمكننا أن نتعرف على أربع خصائص رئيسة(Grosskurth & Rotmans, 2005: 135-150). يشير أولها إلى أن التنمية المستدامة تمثل ظاهرة عبر جيلية، أي أنها عملية تحويل من جيل إلى أخر. وهذا يعني أن التنمية المستدامة لابد أن تحدث عبر فترة زمنية لا تقل عن جيلين، ومن ثم فإن الزمن الكافي للتنمية المستدامة يتراوح بين 25 إلى 50 سنة.
        وتتمثل الخاصية المشتركة الثانية في مستوى القياس. فالتنمية المستدامة هي عملية تحدث في مستويات عدة تتفاوت ( عالمي، إقليمي، محلي).ومع ذلك فإن ما يعتبر مستداما على المستوى القومي ليس بالضرورة أن يكون كذلك على المستوى العالمي. ويعود هذا التناقض الجغرافي إلى آليات التحويل والتي من خلالها تنتقل النتائج السلبية لبلد أو منطقة معينة إلى بلدان أو مناطق أخرى.
        وتعد المجالات المتعددة خاصية ثالثة مشتركة حيث تتكون التنمية المستدامة من ثلاثة مجالات على الأقل: اقتصادية، وبيئية، واجتماعية ثقافية. ومع أنه يمكن تعريف التنمية المستدامة وفقا لكل مجال من تلك المجالات منفردا، إلا أن أهمية المفهوم تكمن تحديدا في العلاقات المتداخلة بين تلك المجالات.  فالتنمية الاجتماعية المستدامة تهدف إلى التأثير على تطور الناس والمجتمعات بطريقة تضمن من خلالها تحقيق العدالة وتحسين ظروف المعيشة والصحة. أما في التنمية البيئية المستدامة فيكون الهدف الأساس هو حماية الأنساق الطبيعية والمحافظة على الموارد الطبيعية. أما محور اهتمام التنمية الاقتصادية المستدامة فيتمثل في تطوير البنى الاقتصادية فضلا عن الإدارة الكفؤة للموارد الطبيعية والاجتماعية.
والقضية هنا أن تلك المجالات الثلاثة للتنمية المستدامة تبدو نظريا منسجمة لكنها ليست كذلك في الواقع الممارس. كذلك فإن المبادئ الأساسية هي الأخرى مختلفة فبينما تمثل الكفاءة المبدأ الرئيس في التنمية الاقتصادية المستدامة تعتبر العدالة محور التنمية الاجتماعية المستدامة، أما التنمية البيئية المستدامة فتؤكد على المرونة أو القدرة الاحتمالية للأرض على تجديد مواردها.
        وتتعلق رابع خاصية مشتركة بالتفسيرات المتعددة للتنمية المستدامة. فمع أن كل تعريف يؤكد على تقدير للاحتياجات الإنسانية الحالية والمستقبلية وكيفية الإيفاء بها، إلا انه في الحقيقة لا يمكن لأي تقدير لتلك الاحتياجات أن يكون موضوعيا، فضلا عن أن أية محاولة ستكون محاطة بعدم التيقن. ونتيجة لذلك فإن التنمية المستدامة يمكن تفسيرها وتطبيقها وفقا لمنظورات مختلفة (Grosskurth & Rotmans, 2005: 135-150).
ومن أهم تلك التعريفات وأوسعها انتشارا ذلك الوارد في تقرير بروندتلاند (نشر من قبل اللجنة عبر الحكومية التي أنشأتها الأمم المتحدة في أواسط الثمانينات من القرن العشرين بزعامة جروهارلن بروندتلاند لتقديم تقرير عن القضايا البيئية)، والذي عرف التنمية المستدامة على أنها "التنمية التي تلبي احتياجات الجيل الحاضر دون التضحية أو الإضرار بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها" (WCED 1987: 8,43). ويزعم كل من McNaghten and Urry أنه:
منذ قمة ريو أصبحت التعريفات العملية للاستدامة مقبولة على نطاق واسع من قبل الحكومات، والمنظمات غير الحكومية NGOs وقطاع الأعمال. ويبدو أن تلك التعريفات قد عدت من قبيل العيش ضمن نطاق القيود المحدودة للأرض، والإيفاء بالاحتياجات دون الإضرار بقدرة الأجيال القادمة للإيفاء باحتياجاتها، وتكامل البيئة والتنمية (McNaghten &  Urry 1998: 215).  
ومع أن هناك شبه إجماع نظري بأن المساواة (سواء بين أفراد الجيل الحالي من جهة أو بين الأجيال المختلفة من جهة أخرى) تعتبر عنصرا أساسيا للمفهوم إلا أن مضمون تلك المساواة لا يزال غامضا.
وبينما يصف تعريف بروندتلاند بغموض شديد الإجماع العام حول تعريف الاستدامة، إلا أن هناك جدلا واسعا حول وسائل ضمان استقرار الأجيال القادمة. فالتفسيرات المتعلقة بكيفية تنفيذ "التنمية المستدامة" تتباين ما بين تلك التي تتبنى التركيز الضيق على الاقتصاد أو الإنتاج إلى تلك التي تدعو إلى استيعاب واسع للثقافة والبيئة فضلا عن أن هذا التعريف قد أعتبر منحازا إلى نموذج إرشادي تنموي محدد (يتمركز حول الإنسان) ولذلك رفض وانتقد من قبل كثير من الكتّاب.
فقد نظر عدد من المفكرين إلى إعلان ريو الذي تبنى ذلك التعريف بريبة وشك. ويتمثل مصدر القلق الرئيس لديهم في أن الهدف الأساس الذي يرمز للمفهوم – أي معالجة الاستغلال المؤذي بيئيا للموارد الطبيعية- كان غائبا في مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية UNCED. ويرى بالميرتس Pallmearts أن ذلك الغياب المقصود قد "مثل خطوة مقّنعة ذكية للوراء عن الجهود البيئية الدولية"(Pallmearts 1992:256). وتركز الانتقاد بشكل رئيس على جانبين: أولا أن إضافة كلمة "والتنمية" في صياغة المبدأ الثاني من إعلان ريو قد تسببت في تهميش السياسات التنموية. وثانيا: أن وضع كلمة "الإنسانية" في قلب الاهتمام بالتنمية المستدامة في المبدأ 1 في إعلان ريو يجعل العناصر البيئية، والموارد، والكائنات الحية خاضعة لهيمنة الإنسان، مما يفسد التوازن الدقيق الذي تم التوصل إليه في مؤتمر استوكهولم بين حق استخدام الموارد الطبيعية والمسئولية عن حماية البيئة(Ibid).
ولكي نمسك بزمام نطاق التعريفات المتنوعة والمتنافسة للتنمية المستدامة فمن الضروري وقبل كل شيء أن نعترف بأن نقطة البداية لكثير من أدبيات التنمية المستدامة – ولو أنها في الغالب ضمنية بدلا من أن تكون صريحة – تتمثل في ما يطلق عليه "التناقض البيئي Environmental Paradoxy، لأن هذا يعني بالنسبة لجميع المهتمين بالتنمية المستدامة تقريبا أن هناك تناقض بين ما هو مطلوب من الأرض وبين ما يمكن للأرض أن تقدمه.
كذلك لكي نطور مفهوما متفقا عليه للتنمية المستدامة فإنه يجب أن يكون هناك فهما مشتركا للشيء المراد استدامته. كما لاحظنا في هذه الدراسة فإن للمفهوم جوهرا متمركزا حول الإنسان بشكل مهيمن في أدبيات التنمية المستدامة حيث كان التركيز على استدامة المجتمع الإنساني على الأرض. لكن أي مجتمع إنساني؟ والإجابة طبقا لتقرير بروندتلاند تعني ذلك المجتمع الإنساني القادر على الإيفاء باحتياجاته، إلا أن تلك الاحتياجات يمكن أن تفهم بطرق مختلفة.
ومن ثم يمكن القول أن المشكلة الأكثر وضوحا في هذا المجال تتمثل في التنامي المفرط للنشاطات الإنسانية لاستغلال موارد الطبيعة في مقابل القدرة المحدودة للأنساق الحيوية الطبيعية للإيفاء بتلك النشاطات. ولذا فإن أحد أفضل التعريفات العملية الملائمة "للاستدامة" يمكن أن تتمثل في "تحقيق الحد الأعلى من الكفاءة الاقتصادية للنشاط الإنساني ضمن حدود ما هو متاح من الموارد المتجددة وقدرة الأنساق الحيوية الطبيعية على استيعابه" مع ربطها باحتياجات الجيل الحالي والأجيال القادمة، بشرط أن تكون تلك الاحتياجات مما لا يلحق تهديدا جديا بالعمليات الطبيعية، والمادية، والكيميائية، والحيوية. أي أن هناك قيدا مزدوجا على التنمية المستدامة: يرتبط جانب منه بأداء العمليات الطبيعية، أما الآخر فيتعلق بالإيفاء بالاحتياجات الموضوعية، فضلا عن الاحتياجات الإنسانية الحالية والمستقبلية كلما كان ذلك ممكنا. ولتحقيق هذا الأمر فإنه لابد من العمل على تعظيم إنتاجية الموارد من جهة وتقليص العبء الذي تتحمله البيئة (سواء من حيث الموارد أو الطاقة) من جهة أخرى.
 وانسجاما مع هذا التعريف ينبغي التأكيد عند معالجة المشكلة البيئية على ثلاثة أنواع من التوازن في هذا المجال وهي:
-       التوازن بين المناطق وخاصة بين الشمال والجنوب
-       التوازن بين الكائنات الحية
-       التوازن بين الأجيال
وهذا يعني ضمنيا العمل على تقييد النشاطات الإنسانية ضمن نظام محدد بعناية يمكن من خلاله التحقق من عدم فرض أي أعباء إضافية على النسق الحيوي للأرض أو الأجيال القادمة. إذن فإن ما ينبغي العمل على استدامته هو ذلك الوضع المتوازن عالميا بين احتياجات الإنسان واحتياجات الطبيعة، حيث يجب الإيفاء بمعظم احتياجات الطبيعة لأن تحقيقها يعتبر أمرا حاسما للبشر.  
وأخيرا ينبغي الإشارة إلى أن الجدل الدولي حول مفهوم التنمية المستدامة قد خلق بالتأكيد مجالا جديدا من الخطاب كما أن معناه الواسع والغامض قد سمح لجماعات مختلفة للسعي لتحقيق مصالحها بطرق جديدة وحجج مختلفة. وبينما يمكن النظر إلى تلك الظاهرة كمؤشر إيجابي في إبراز قضية التنمية المستدامة لتحتل الصدارة في النقاش العام، إلا أنه يجب أيضا ألا نغفل المخاطر المرتبطة بها. فمع أنه قد لا يكون ممكنا أو حتى محبذا حصر مفهوم التنمية المستدامة في تعريف محدد، إلا أن الخطابات السياسية حول كيفية الربط بين القضايا البيئية والاقتصادية والاجتماعية قد تسببت، وستستمر، في إحداث خلافات سياسية وتنافس حول التعريف الأفضل. وبرغم أن تعدد وتشتت التفسيرات ووجهات النظر يمكن أن تسمح بالمرونة إلا أنه يخشى أن يصبح مبدأ الاستدامة عديم المعنى، وليس أكثر من مجرد عبارة في البلاغة السياسية.
وجهات النظر المختلفة حول الأزمة البيئية والتنمية المستدامة
لقد كانت حركة الاستدامة البيئية، منذ بدايتها، منقسمة على نفسها- مثل معظم الحركات الاجتماعية الأخرى- إلى جناح معتدل عرف احيانا "بحركة الاستدامة الضعيفةweak sustainability" وآخر ثوري عرف أيضا "بحركة الاستدامة القويةstrong sustainability". ومع أن أجندة التنمية المستدامة في الوقت الحاضر تعكس انتصار الجناح البيئي المعتدل أو الإصلاحي  حيث أصبح الوجه الأكثر قبولا من الفكر البيئي لدى الساسة والحكومات في الدول الصناعية المتقدمة ، إلا أن الجناح الثوري من الحركة البيئية قد ناضل بدرجة أكبر من أجل الاهتمام بجوانب العدالة والديموقراطية للخطر البيئي مؤكدا على أن "العالم المستدام يجب أن يكون عالم أكثر تساويا(Lowe 2004, 28).
 (1) الاستدامة الضعيفة أو الضحلة (المتمركزة حول الإنسان):
        تزعم حركة الاستدامة الضعيفة التي عرفت إيضا "بالبيئية الضحلة" “shallow environmentalism” بأن هناك حاجة لتوسيع نطاق المخزون من الموارد وأن هذا يمكن تحقيقه من خلال تطوير موارد متجددة، وإيجاد بدائل للموارد غير المتجددة، والاستخدام الأمثل للموارد الحالية و/أو البحث عن حلول تكنولوجية لمشاكل من قبيل نفاد الموارد والتلوث. وفي القلب من هذا الخطاب يكمن تفاؤلا ضمنيا يتمثل في الثقة بأن البشر سيجدون حلا لكل مشكلة بيئية تبرز على السطح، كما سيكونون قادرين على تعزيز مخزون الموارد وذلك لأن التقدم التقني كما يفترض سيمكن البشر من التحكم في الأرض لتلبية مطالبهم المتنامية. ومن ثم فإن أي مشكلة تظهر ستحل من خلال التطور التقني. ويجادل أنصار هذا الموقف بأن أسباب الأزمة البيئية التي يعيشها كوكب الأرض لا تكمن في قيم نموذج الحداثة المهيمن المتمركز حول البشر ولا في معاييره أو مؤسساته وممارساته بل أن تلوث الماء والهواء ونفاد الموارد الطبيعية وتناقص التنوع البيئي والفقر وحالات عدم المساواة هي نتيجة للجهل والجشع والممارسات الحمقاء في التعامل مع البيئة. ومن ثم:
يمكن كبح مثل هذه الممارسات الحمقاء الملامة خلقيا عبر سن تشريعات وتغيير السياسة العامة، وزيادة التعليم، وتغيير القوانين الضريبية، وإعادة الأراضي العامة إلى مالكيها ......، والتأكيد على الإلزامات الخلقية نحو الأجيال المستقبلية، وتشجيع الإدارة الحكيمة للطبيعة وتشجيع آخر لاستخدام رشيد للموارد الطبيعية (زيمرمان 2006 ص. 20).
كما أنهم متفائلون بشكل عام حيال قدرة الإنسان على حل أي مشكلة يمكن أن تظهر فيما يتعلق بنفاد الموارد. وينبع هذا التفاؤل من الاعتقاد بأن الخبرة العلمية والتقنية في المجتمع الصناعي الحديث ستردم الفجوة بين الطلب والموارد من خلال التحكم في مخزون الموارد – للإيفاء باحتياجات المجتمع. ومن ثم يزعم أنصار الاستدامة المتمركزة حول الإنسان أنه ليس هناك حاجة لتحويل أو تعديل الخطاب السائد حول الطبيعة والبيئة والتقدم الاقتصادي والتنمية والذي ينظر للطبيعة في الغالب كمورد للبشر حق الهيمنة عليه واستغلاله فضلا عن الاعتقاد بأن التقدم الاقتصادي يعتبر معيارا شرعيا للتقدم (زيمرمان 2006 أ: 20)  . 
وخلال العقود الأربعة الماضية تم استيعاب الاعتبارات البيئية الأساسية بنجاح من خلال موشورات كل من التنمية المستدامة والتحديث البيئي اللذين يهيمنان على الخطاب البيئي في الوقت الحاضر. ومع ذلك فإن حركة الاستدامة البيئية الضحلة هذه تمثل حيزا من المنظورات المتناقضة بل إن ما نجده في الواقع هو تعاقب مرحلي للفكر بين منظريها. وبرغم أن ما يميز هولاء هو أنهم لا يرون حاجة لإحداث أي تغيير جذري فيما يتعلق بالتقدم والتنمية الاقتصادية، إلا أن هناك طيفا من المواقف التي تبحث وبدرجات متفاوتة عن تنازلات تجاه الحماية البيئية. وبدلا من الاعتقاد بوجوب إيجاد حلول للآثار السلبية (الاقتصادية والاجتماعية والبيئية) للرأسمالية باستخدام ذكاء وإبداع المجتمع بشكل عام، فإن أنصار الاستدامة الضحلة يزعمون في الغالب أن على الرأسمالية أن تستوعب المشاكل البيئية بشكل أفضل. ولذا فإنهم يتبنون، على سبيل المثال، إدخال تحسينات على وكالات مراقبة البيئة، وترشيد استخدام الموارد، واستخدام أفضل الوسائل لتقييم المشاريع لدراسة وتقدير الآثار البيئية للمقترحات والتعديلات الاقتصادية كي تأخذ في الاعتبار الأضرار التي قد تلحق بالبيئة (French 2004: 116-124).
وبرغم التفاؤل الذي يسود بين أنصار هذا التوجه من أن أحدى أهم النتائج المترتبة على تنامي تطور علاقة الإنسان التبادلية مع الطبيعة في ظل ظروف مجتمع المعلومات أو المجتمع ما بعد الصناعي تتمثل في العملية التي تعرف بـ dematerialization (تقليص الاعتماد على الموارد المادية) والتي تعني الحصول على نفس النتائج أو نتائج أفضل بقدر أقل من استهلاك الموارد المادية من خلال تحويل المنتجات إلى خدمات لدعم وتبرير العمليات الإنتاجية الصديقة (غير الضارة) للبيئة، ونشر التغيرات البنائية المصاحبة لها، إلا أن النسق الاقتصادي الآخذ في التبلور نتيجة لتلك الإبداعات يعاني كما يقول ليفين  Levin  من عدة تشوهات. فعلى سبيل المثال يلاحظ أن فروع الإنتاج المعلوماتي تتميز بنمو متسارع مما قد يتسبب في حدوث عواقب وخيمة، وعندها يمكن الحديث عن ما يعرف بتأثير فقاعة الصابون بالنسبة لهذا القطاع من الاقتصاد التي تعني أن حدوث أدنى قدر من التغيرات في الحالة السياسية والاقتصادية قد يحدث موجات عديدة من التوتر في سوق الأسهم على مستوى العالم كله (Levin, 2006:66).
أما فيما يتعلق بمصطلح dematerialization ذاته فلا يبدو أنه ملائم كعلامة للعمليات القائمة حيث أن أهداف الاستهلاك الإنساني لا يمكن إحلالها كليا بنظائرها الافتراضية. ورغم أن الميزة المحددة للتطور التقني في مجتمع المعلومات تتمثل في الإحلال التدريجي للمتطلبات المادية للاستهلاك بأخرى افتراضية، إلا أن هذه النزعة لا يمكن أن تشمل تماما كل مجالات الاستهلاك، كما أن الاستهلاك غير المادي يظل خطيرا على البيئة التي يعيش فيها الإنسان. فقد أعتقد كثيرون أن تطور أنظمة الاتصال مثلا سيقضي بالتدريج على الروابط القائمة بين الناس، والحاجة إلى الاتصال الشخصي، أو حتى أن الحركة المكانية ستتقلص، حيث سيتم تنفيذ معظم العمليات التي تعتبر سلوكا معتادا للإنسان المتحضر- مثل التسوق، والخدمات البنكية، والعمل- من بعد من خلال أجهزة الحاسوب، ومن ثم يمكن القضاء على واحدة من أكبر الأزمات البيئية المتمثلة في تلوث الهواء الناتج عن عوادم السيارات فضلا عن الازدحام السكاني (Levin 2006: 67).            
ومع أنه في ظل هذه الظروف يستطيع الناس أن يقابلوا بعضهم بعضا "افتراضيا"، إلا أنه لا يمكن القيام بكل أشكال النشاط الإنساني بهذه الطريقة ويبقى اللقاء الشخصي هاما. وهذا يؤدي إلى زيادة كبيرة في معدل المسافة التي يقطعها كل شخص أو معدل الرحلات الشخصية. و لا يزال مثل هذا الأمر قائما حتى في الدول المتقدمة. فضلا عن ذلك يجب ألا ننسى عامل أخر لا يقل أهمية فيما يتعلق بمزيد من التطور في المواصلات "الحقيقية": فمع انتشار الناس وتوزعهم على "قرى الحاسوب" ستزداد المسافة بين المنتج للسلع والمستهلك لها كما هو ملاحظ في تجربة البلدان الأكثر تقدما في هذا المجال. وحيث أنه لا يمكن لثلاجة منزلية مثلا طلبت عن طريق الانترنت أن ترسل عبر الفاكس أو الحاسوب فإن حركات الناس عبر المكان تتزايد بنفس معدل تزايد الاتصالات الاليكترونية بينهم.    
وهناك أثر أخر لا يقل أهمية لتطور تقنيات الاتصال يتمثل في تنامي استهلاك الطاقة في البلدان المتقدمة. فكل منزل في البلدان المتقدمة تقريبا لديه الكثير من الأجهزة المصممة لكي تستهلك قدرا مطردا من الطاقة. فالأجهزة التي تعمل ليلا ونهارا بدون توقف تعتبر أمرا معتادا كما هو الحال مع أجهزة الحاسوب، ولا يبدو أن مثل هذه النزعة لاستهلاك المزيد من الطاقة في طريقها للتقلص في المستقبل القريب بل أنها تشهد تناميا مطردا، بل أن الأمر سيتطلب إنتاج قدرا أكبر من الطاقة عندما يتم تطبيق الخطط من أجل ما يعرف "بالبيوت الذكية" التي يتم التحكم في كل وظائف الحياة اللازمة فيها عن طريق الأتممة الذكية. وعندما نأخذ في الاعتبار أن القدر الأكبر من كهرباء العالم يتم توليده من خلال محطات الكهرباء الحرارية (التي تستخدم أساسا الوقود الاحفوري كالنفط الخام أو الغاز الطبيعي)نجد أن فرض مثل ذلك العبء الإضافي يمكن أن يقضي على كل الجهود الهادفة إلى إنجاز تنمية مستدامة (Levin 2006:66-68).
        وهناك اتجاهان يتمتعان بشعبية متزايدة ضمن أدبيات هذا الاتجاه. أولهما: ما يشار إليه أحيانا "التحديث الإيكولوجي" "Ecological Modernization (see for example:    Roberts 2004; Mol 1999 ) ، الذي يزعم أن الممارسات الاقتصادية الحالية متجذرة بشكل عميق في نموذج الحداثة ومرتبطة بالمؤسسات العلمية التقنية الحديثة. وبناءا عليه فإن " المؤسسات المهيمنة تستطيع بالفعل أن تتعلم وأن تعلمها يمكن أن ينتج تغيرا مفيدا" (Hajer, 1996: 251). ومن ثم يرفض هذا الاتجاه النظرة القائلة بأن قوى السوق قد أدت في الماضي إلى التدهور البيئي أو أنها يمكن أن تتسبب في أزمة بيئية في المستقبل ويزعم بأن الأزمة البيئية ليست إلا نتيجة للجهل والجشع وقلة البصيرة وهو ما يمكن كبحه من خلال تطوير التعليم وسن التشريعات وترشيد استخدام الموارد(زيمرمان 2006أ: 20). وبرغم أن هذا الاتجاه يقدم فهما معقدا للمجتمع ما بعد الصناعي إلا أن فكرته الأساسية تتمحور حول الإبداع التقني. فبعكس الاتجاهات البيئية الأخرى، التي ترى أن التطور التقني يمثل معضلة مما يستدعي كبح الرأسمالية أو عملية التصنيع بهدف حل الأزمة الإيكولوجية، يزعم أنصار التحديث الأيكولوجي أن استمرار التطور التقني والتصنيع يقدم أفضل خيار ممكن للتخلص من الأزمة الإيكولوجية في الدول المتقدمة.
كما يجزم أنصار هذا الاتجاه بأن التوقعات بحدوث ضغوط كبيرة على الناس أو الموارد البيئية أمر غير دقيق، بسبب إغفال قدرة البشر على إيجاد حلول لمشكلات الندرة من خلال إيجاد البدائل وتحسين كفاءة النمو الاقتصادي حتى يستخدم موارد طبيعية أقل وتقليص الاستهلاك (Anderson & Leal 1991:2)، فضلا عن رفض إحداث تغيير جذري في مسار التطور الاقتصادي ومطالب البشر تجاه الأرض. وفي هذا السياق يزعم  Dryzek  أنه  "يمكن النظر للتدهور البيئي كمشكلة بنائية يمكن حلها فقط من خلال الإلمام بكيفية تنظيم الاقتصاد ولكن ليس بطريقة تتطلب نوعا مختلفا تماما من النظام السياسي الاقتصادي" (Dryzek 1997: 141). ولذلك يحاول اتجاه التحديث الإيكولوجي التوفيق بين حتميات السوق والالتزامات الإيكولوجية وهذا يعني ضمنا "شراكة تتعاون فيها الحكومات والشركات وأنصار البيئة المعتدلون والعلماء لإعادة صياغة الاقتصاد السياسي الرأسمالي وفقا لأسس بيئية يمكن الدفاع عنها (Ibid:145).
و يعتبر التحديث الأيكولوجي، كما هو الحال بالنسبة للتنمية المستدامة، مفهوما مطاطيا يفهم ويطبق بطرق مختلفة لكنه يذهب أبعد من التنمية المستدامة في زعمه بأن التوفيق بين البيئة والتنمية ليس فقط ممكنا ولكنه مفيد لقطاع الأعمال أيضا. ويحاول اتجاه التحديث الأيكولوجي أن يأخذ التنمية المستدامة خطوة إلى الأمام لكن في اتجاه مختلف بشكل كبير. فهو يؤكد على أن المجتمع الصناعي لن يكون بمقدوره البقاء فقط بل أنه يستطيع التكيف جيدا وبشكل مثمر مع الضغوط البيئية حيث يزعم أن التحكم المسئول في الضغوط البيئية يمكن أن يكون جيدا لقطاع الأعمال، فالتلوث يعكس عدم الكفاءة وبالتالي يضيف مزيد من التكاليف لقطاع الأعمال. وفي هذا السياق يؤكد  Hajer 1995 "أن التحديث الإيكولوجي يستخدم لغة قطاع الأعمال ويصور التلوث البيئي كنتيجة لانعدام الكفاءة بينما يعمل ضمن حدود التكلفة والفعالية والكفاءة البيروقراطية"(Hajer 1995:.31). ولا ينكر أنصار هذا التوجه حدة وخطورة المشاكل البيئية لكنهم بدلا من تبديد جهدهم في إنكارها يفضلون الاستثمار في حلها لأنهم يدركون أن معالجة مثل تلك المشاكل يمكن أن ينتج عنه نتائج إيجابية اقتصاديا وسياسيا وبيئيا. أي أن الحماية من التلوث والاستثمار في تقنيات جديدة مجدي اقتصاديا، كما أن النظر للطبيعة كمورد ثمين بدلا من مكب نفايات يعني أن تلويث البيئة مكلف بالمعايير الاقتصادية والبيئية. باختصار يمكن القول أن اتجاه التحديث الإيكولوجي يمثل أساسا اقتراب حداثي وتكنوقراطي للبيئة يرى أنه يمكن إيجاد حلول تقنية ومؤسساتية للمشاكل القائمة، وأن الافتراض الأساسي لهذا الاتجاه يتمثل في أن القيم الاقتصادية والإيكولوجية هي /أو يمكن أن تكون متوافقة، وعندما يتحقق مثل هذا التوافق يتم تحويل المبادئ الإجرائية (مثل التنمية المستدامة) إلى معرفة اجتماعية ومؤسساتية.
        ومع ذلك فهناك من ينتقد الافتراضات النظرية ونتائج صنع السياسة لاتجاه التحديث الإيكولوجي (وخاصة الجانب الأضعف منه) باعتباره مجرد نموذج "للرأسمالية الخضراء"، حيث يزعم كل من Connelly and Smith  أن التحديث الأيكولوجي، الذي تم تبنيه في كثير من الدول الصناعية المتقدمة وضمن أجندة التنمية المستدامة التي تبنتها الوكالات الدولية، يبرر الوضع القائم ونمط التصنيع الغربي من خلال إعاقة المواقف الأكثر ثورية للاستدامة من الظهور وعدم الاستغلال الكامل للامكانات الثورية لمفهوم التنمية المستدامة وترسيخ النموذج المعرفي المتمركز حول الإنسان والتقنية (Connelly and Smith, 1999:57-59) . كما يتهم هذا الاتجاه بتهميش القضايا البيئية وإخضاعها لاعتبارات الاقتصاد أو إدارة الموارد. ففي صياغة الأجندة البيئية أستخدم التحديث الإيكولوجي لغة قطاع الأعمال التي تنظر للبيئة بمعايير نقدية ولم يهتم بها إلا عندما تحقق عوائد اقتصادية مثل توفير التكاليف أو تحقيق ميزة تفضيلية. وهذا التركيز حال دون أن يتضمن اتجاه التحديث الإيكولوجي الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية الأوسع التي تعتبر ضرورية في التحول تجاه مزيد من الاستدامة (Christoff 1996: 485). كذلك ينتقد هذا الاتجاه لاستناده على معايير وقيم للتقدم تتبناها النظرية السائدة للتنمية كقيم الحداثة والعقلانية مما جعل "الخطاب الرسمي" الحالي تجاه صنع السياسة البيئية المتبني للتحديث الإيكولوجي يستبعد بشكل كبير المواقف المختلفة للاستدامة التي تشمل اهتماما أكبر بالحساسية الاجتماعية والثقافية، وتعزيز المشاركة السياسية، وتبني استراتيجيات فرعية -إقليمية ومحلية- للاستدامة ويصفها باللاعقلانية (Gibbs 2000: 9-17). وينتقد الاتجاه أيضا لكونه يمثل مسارا أحاديا للحداثة الإيكولوجية مما يجعله مفضلا في أوساط التوجه الرئيس للنظرية التنموية الذي يعتبره بمثابة المرحلة الضرورية القادمة من العملية التطورية للتحول الصناعي، وهي المرحلة التي تتسم بهيمنة العلم والتقنية الغربيين فضلا عن سيادة ثقافة الاستهلاك(Christoff 1996:487-488) .
أما الاتجاه الثاني الذي يشار إليه أحيانا "بالعدالة البيئية" Environmental Justice وأحيانا "الحركة الخضراء" فيمثل مظلة تستخدم لوصف المنظمات التي تحاول تعزيز العدالة الاجتماعية والمساواة نظرا لحالات عدم العدالة التوزيعية الناتجة عن السياسة البيئية. ويزعم هذا التوجه أن هناك ارتباطا وثيقا بين الجودة البيئية والمساواة الاجتماعية، فحيثما يحدث تدهور للبيئة يكون ذلك مرتبطا في معظم الأحوال بقضايا العدالة الاجتماعية والمساواة، والحقوق ونوعية حياة الناس بشكل عام. ويرى أنصار هذا الاتجاه أن من الظلم تحميل تبعات المخاطر البيئية على كاهل أطراف لم تكن مسئولة عن التسبب فيها وخاصة الفئات الهامشية في المجتمع كالفقراء (Wenz 1988; Low & Gleeson 1998). وفي هذا السياق يزعم (Agyeman 2002: 77-90) أن هناك ثلاثة أبعاد مرتبطة بهذه القضية، أولا: يلاحظ أن البلدان التي لديها توزيع أكثر عدالة للدخل، وقدر أكبر من الحريات المدنية والحقوق السياسية، ومستوى أعلى من التعليم تميل لأن تتمتع ببيئة ذات جودة أعلى مما عليه الحال في البلدان التي تسجل معدلات أقل في مجالات توزيع الدخل والحريات والتعليم. ولا يقتصر هذا الأمر على المستوى العالمي بل يتكرر أيضا على المستويات الإقليمية والمحلية. ثانيا: يتحمل الفقراء العبء الأكبر من تبعات المشاكل البيئية من تلوث الهواء والماء بينما يستطيع الأغنياء ضمان الحصول على بيئة وصحة أفضل لهم ولأطفالهم. ومما يفاقم هذا التوزيع غير العادل للمشاكل البيئية حقيقة أن الفقراء دوليا وقوميا ليسوا المتسببين الرئيسين في التلوث حيث أن معظم التلوث والتدهور البيئي ناتج عن تصرفات الدول الغنية ذات الاستهلاك المرتفع وخاصة الجماعات الثرية فيها. وهذا الوضع هو الذي دفع إلى بروز حركات العدالة البيئية في الولايات المتحدة. أما البعد الثالث فيرتبط بالتنمية المستدامة التي تبنتها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية منذ قمة ريو 1992م والتي تركز بدرجة أكبر على ضمان الحصول على نوعية حياة أفضل بأسلوب عادل ومتساو مع العيش ضمن حدود النظم الإيكولوجية الداعمة.  إلا أن هذه الاستدامة وبرغم أهميتها ليست كافية، فالمجتمع المستدام حقا هو ذلك الذي تكون فيه القضايا الأوسع مثل الاحتياجات الاجتماعية والرفاه الاجتماعي والفرص الاقتصادية مرتبطة بشكل تكاملي مع القيود البيئية المفروضة (Agyeman. 2002:87).   
ولذلك يؤكد اتجاه العدالة البيئية على قدرة النمو الاقتصادي على الاستمرار ولكن مع التأكيد على إعادة توزيع المنافع والتكاليف بطريقة أكثر عدالة مما يجعله وسيلة للتوفيق بين أجندة التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. ويرتبط هذا بالتأكيد على ضرورة توفر قدر أكبر من العدالة كهدف اجتماعي مرغوب وعادل جوهريا بإدراك أنه بدون نضال المجتمع من أجل قدر أكبر من المساواة الاجتماعية والاقتصادية ضمن المجتمع وبين الدول فإنه من غير المحتمل ضمان تحقيق هدف الوصول إلى مجتمع عالمي أكثر استدامة. وينتقد أنصاره النماذج الأقوى من الاستدامة لتجاهلها الآثار السلبية الناتجة عن حركة استدامة رأس المال البيئي على المساواة الاجتماعية، فضلا عن فشل الحركات البيئية والباحثين في مجالها عن إدراك المظالم في الأنماط الحالية للحصول على السلع البيئية من جهة والتعرض للمخاطر البيئية من جهة أخرى. ولذا ينظر للعدالة البيئية كوسيلة لتجاوز تلك المشاكل من خلال إعادة صياغة العلاقة بين المجتمع والطبيعة لكي لا تكون مبنية فقط على معايير اقتصادية، ولتسليط الضوء على الأبعاد الاجتماعية الهامة للأطر والمشكلات البيئية.  ويعترف أنصار هذا الموقف بالروابط المباشرة وغير المباشرة بين حماية الموارد الطبيعية وصحة أفراد المجتمع، حيث يدركون أن للبيئة النظيفة أثرا ايجابيا على الصحة العامة للسكان، كما يدركون أيضا أن توزيع خدمات الموارد الطبيعية بين الشعوب لم يكن عادلا. ولذا يزعمون أن الحكومة مسئولة عن حماية الموارد الطبيعية بطريقة تستوعب وجهات نظر واحتياجات الأفراد والحيوانات الأكثر عرضة للضرر حتى يستطيع كل فرد الاستمتاع بمنافع الموارد الصحية والخدمات البيئية.  كذلك يعمل أنصار هذا الموقف على إعادة تشكيل الثقافة السياسية العالمية ما بعد الحرب الباردة في علاقتها بالعولمة الاقتصادية. حيث يركز خطابهم على دور الشركات عبر القومية وسياسات الدولة "النيوليبرالية" في علاقتها بقضايا مثل الاحترار العالمي، وقطع الغابات، وفقدان التنوع البيئي، وانقراض الكائنات الحية، وتلوث الهواء والماء(see: Athanasiou 1996; Korten 1995). ويؤكد هذا الخطاب على وجود علاقة وثيقة بين العولمة النيوليبرالية وحالة عدم المساواة وبين الخطر البيئي والعدالة الاجتماعية وذلك لأن العولمة وسياسات تحرير التجارة المنبثقة عنها تعمل على تسريع وتفاقم الخطر البيئي الذي يحول معظمه وبطريقة ظالمة على لفئات المهمشة الأقل استعدادا لتحمله. ولذلك أعلن أنصار هذا الاتجاه عداءهم للعولمة النيوليبرالية الموجهة من قبل الأقوياء لصالح القلة واتهموها بتهديد البيئة وتحطيم المجتمعات واستغلال موارد العالم الثالث، والتسبب في الحروب وإضعاف الديموقراطية(see for example: Starr 2000).      
(2) الاستدامة القوية(المتمركزة حول البيئة):
مع أن الاقترابات الاقتصادية للاستدامة الأضعف لم تطرح مسألة انسجام التنمية المستدامة مع النمو الاقتصادي حيث ركزت بشكل أساسي على النمو الاقتصادي، إلا أن محدودية الفضاء والموارد الطبيعية فضلا عن القدرة المحدودة للغلاف الجوي لاستيعاب وتخزين الغازات الدفئية يجعل التنمية المستدامة التي تتطلب نموا لا محدودا تبدو مستحيلة. ولذا ينظر أنصار الاستدامة القوية(المتمركزة حول البيئة) للأرض كمورد ناضب غير متجدد ومن ثم يزعمون أنه ليس هناك مستقبل بيئي ممكن إلا إذا تم تعديل جذري على جانب الطلب من المعادلة من خلال إعادة التفكير في موقفنا تجاه الطبيعة فضلا عن فكرتنا عن التقدم الاقتصادي والتنمية (see for example the works of: Goldsmith et al. 1995; Henderson 1999).  
ولذلك تؤكد وجهة النظر هذه المعروفة أيضا "بالإيكولوجية العميقة"deep ecology" " أو المذهب الإيكولوجي (التبيئو) ecologism (الذي يهتم بدراسة العلاقة بين الكائن الحي والبيئة التي يعيش فيها) "المتمركزة حول البيئة" "ecocentric" بأنه لابد من حدوث ثورة في النموذج الإرشادي المهيمن إذا ما أريد إنقاذ كوكب الأرض من الفساد البيئي. وتبعا لذلك فإن هذه النظرة ترى أنه لابد أن نعمل على تكييف أنفسنا للحفاظ على الطبيعة المهددة بالفناء بدلا من تكييف الأرض لتناسب احتياجاتنا. وقد تسبب إصرار أنصار هذا الاتجاه على إحداث تغير بنائي وثقافي في إثارة مخاوف كل من قطاع الأعمال والساسة وأولئك الناس الذين كانوا يرغبون في حلول جزئية للمشاكل البيئية. وقد مثل هذا التوجه حركة الرفض ضد سياسات وممارسات الشركات والحكومات المتعلقة بالبيئة في الدول المتقدمة.
ونتيجة لذلك يركز أنصار الجانب الأقوى للاستدامة على تغيير المطالب تجاه الأرض ويتبنون فهما مختلفا للتنمية المستدامة، حيث يعمدون إلى التأكيد على الاستدامة الإحيائية (البيولوجية) كشرط أولي لأي تنمية، بدلا من التركيز على التأثير الإنساني على استراتيجيات التنمية، ومن ثم ينظر للتنمية المستدامة كوسيلة لتحسين نوعية الحياة الإنسانية مع العيش ضمن حدود القدرة الاحتمالية للأنساق الحيوية للأرض.[1]
ويندرج تحت حركة الاستدامة القوية هذه عدة فروع للفلسفة البيئية ومنها الفلسفة الإيكولوجية العميقة  deep ecologyالمتمركزة حول المجال الحيوي(biocentrism) ، والفلسفة الإيكولوجية النسوية (ecofeminism) التي تعبر عن تنمية مستدامة (متمركزة حول المرأة).
وتعود جذور الإيكولوجية العميقة إلى الفيلسوف النرويجي آرني نايسArne Naess  الذي ركز على نقد حركة الاستدامة المتمركزة بشريا التي اهتمت بنظره أساسا بالتلوث واستنزاف الموارد. وتؤكد هذه الفلسفة على اعتبار البشر جزءا مكملا للنسق البيئي الذي يعتبر أعلى وأكبر من أي من أجزائه ومن ضمنهم البشر ومن ثم تضفي قيمة أكبر على الكائنات الحية والأنساق والعمليات البيئية في الطبيعة.
ويعتبر مبدأ نايس Naess's doctrine of biospheric egalitarianism للمساواة في المجال الحيوي، الذي يزعم أن لكل الكائنات الحية الحق نفسه في الحياة والازدهار، المبدأ الأساس للإيكولوجيا العميقة. ويتكون هذا المبدأ الذي يعتبر "قلب هذا التوجه" من ثمان نقاط هي:
1-         إن سلامة واستمرار الحياة البشرية وغير البشرية على الأرض تمثل قيمة بحد ذاتها مستقلة عن نفع العالم غير البشري للاستهلاك البشري.
2-                           أن ثراء وتنوع أشكال الحياة يسهمان في تحقيق هذه القيم، ولهما قيمة في حد ذاتهما أيضا.
3-                           لا يحق للبشر إنقاص هذا التنوع إلا من خلال تلبية الحاجات الحيوية الأساسية.
4-         يتوافق استمرار الحياة البشرية وثقافاتها، وكذلك الحياة غير البشرية، مع عدد أصغر من السكان على الأرض.
5-                           أن الاستغلال البشري الحالي للطبيعة مفرط جدا ويزداد الوضع سوءا.
6-                           يجب أن تتغير تلك السياسات لأنها تؤثر في البنى الأساسية الاقتصادية والتقنية والإيديولوجية.
7-         لابد أن يكون التغيير الأيديولوجي الرئيس من النوع الذي يثمن نوعية الحياة أكثر من مشايعته لنمط العيش الاستهلاكي الحالي المتزايد باطراد.
8-         على أولئك المؤيدين للنقاط السابقة التزام مباشر بمحاولة إنجاز التغييرات اللازمة (زيمرمان  2006: 270-271).
   
        وتبعا لذلك يتبنى أنصار هذا الاقتراب وجهة نظر مختلفة جدا فيما يتعلق بالعلاقة بين الناس والطبيعة حيث يزعمون أن هدف الاستدامة هو حماية الأنساق البيئية الطبيعية ليس من أجل خير وسعادة البشر فقط، كما هو الحال في النموذج المتمركز حول البشر، ولكن للتأكيد أيضا على أن للطبيعة حقوقا حيوية مشابهة، لا تحتاج إلى تبرير بمعايير منفعتها للبشر، (see: Naess 1986)  لا يجوز انتهاكها - مثلما أن هناك حقوقا إنسانية لا يمكن التنازل عنها مهما كانت المبررات. والمشكلة بالنسبة لهولاء الذين يعرفون "بالمتمركزين حول البيئة" أن تلك الحقوق الحيوية ليست محترمة في الوقت الحاضر بل أنها عرضة للانتهاك المستمر. ولذا دعا زيمرمان مثلا "إلى إلغاء وجهة النظر المتمركزة حول البشر التي تعتبر الإنسانية ذاتها مصدر كل القيم والتي تنظر للطبيعة حصرا على أنها موارد خام للاستغلال الإنساني" (Zimmerman, 1987:22). وتبعا لذلك فإن التمركز حول البشر قد أستبدل بالتمركز حول "المساواة البيئية الحيوية" التي تعني مساواة بين الكائنات الحية والتي تعترف بالحقوق غير الإنسانية أو الحيوية (see for instance: Eckersley 1992).    
        وانطلاقا من هذه الخلفية الهادفة إلى إعادة تأهيل البيئة يستمر اقتراب الاستدامة الأقوى في تطوير نقده للتنمية الاقتصادية والتقدم. حيث يرى أنصار هذا الاقتراب أن المجتمع الإنساني- في سعيه اللا متناهي وراء المادية- يسير في الاتجاه الخطأ مع تحول وسائل تحقيق الغايات فيه إلى غايات في حد ذاتها. فالحصول على السلع المادية، مثلا، كان في الأساس وسيلة لتحقيق غاية السعادة إلا أن مثل تلك الوسيلة قد أصبحت اليوم غاية في ذاتها. ولذا دعوا إلى تغيير جذري يأخذ في الاعتبار إعادة تعريف "الثروة" على أنها "سعادة وخير" عوضا عن أن تكون مجرد الحصول على السلع المادية.
        ولكي تتحقق مثل تلك "السعادة" للبشر ولغير البشر فإن أنصار الإيكولوجية العميقة يؤكدون على الحاجة لتغيير الطلب المفروض على الأرض. فهم يرون أن الإستراتيجية المشتركة المتبعة تتمثل في مزيد من أسلوب الحياة الأصغر اللا مركزي المستند على قدر أكبر من الاعتماد الذاتي لكي نخلق نظاما اقتصاديا واجتماعيا أقل تدميرا للطبيعة(see, Morehouse 1997; Henderson 1999) بدلا من السعي لتحقيق هدف النمو الاقتصادي من خلال استراتيجيات ذات نظرة خارجية مادية.
كذلك يندرج تحت حركة الاستدامة العميقة فلسفة بيئية أخرى هي الفلسفة الإيكولوجية النسوية (ecofeminism) التي تعبر عن تنمية مستدامة (متمركزة حول المرأة). وبرغم أن مصطلح النسوية الإيكولوجية يشير إلى مظلة واسعة تنضوي تحتها مواقف نسوية عديدة ومختلفة وأحيانا متنافسة لكنها تشترك في افتراضها بأن النساء أقرب إلى الطبيعة من الرجال بفضل طبيعتهن الأساسية والتزامها باستكشاف العلاقة بين النساء والطبيعة وبتطوير فلسفات نسوية بيئية تستند إلى تلك العلاقة(Warren 1987: 13-15; Zimmerman 1987:40) . وفي هذا السياق تزعم كارين وارن Warren (1990) أن ما يجمع تلك المواقف النسوية الإيكولوجية على اختلاف توجهاتها هو الأسلوب الذي بموجبه عمل منطق الهيمنة الذكورية تاريخيا لإدامة وتبرير الهيمنتين التؤام على النساء والطبيعة ضمن إطار مفهومي جائر في المجتمع الصناعي الحديث(نقلا عن زيمرمان 2006ب: 32). أن تأنيث الطبيعة وتطبيع النساء، كما يقول أنصار هذا الاتجاه، كانا تاريخيا جزءا من استغلال الطبيعة ومن ثم يجب اعتبار قضايا التدهور البيئي والاستغلال المفرط لموارد الأرض قضايا نسوية لأن فهمها بنظرهم يسهم في فهم الجور الواقع على النساء. فقد زعمت النسوية البيئية أن "التمركز حول البشر" human-centeredness   ليس وحده المتسبب في المشكلة البيئية بل يضاف إليه "التمركز الذكوري". فمن خلال إظهار الارتباطات المفهومية بين الهيمنتين على النساء والطبيعة تحاول النسوية الإيكولوجية، كما تقول كارين وارن، أن تشرح لماذا وكيف ينبغي عليها، بما أنها حركة لإنهاء الاستغلال والهيمنة الجنسية، أن تتوسع لتدخل ضمن اهتماماتها إنهاء الاستغلال التمييزي ضد الطبيعة وفقا للحجج التالية:
أولا: النسوية حركة لإنهاء التمييز الجنسي.
ثانيا: إلا أن التمييز الجنسي مرتبط مفهوميا بالتمييز ضد الطبيعة.
ثالثا: إذن فالنسوية هي أيضا حركة لإنهاء التمييز ضد الطبيعة(نقلا عن: زيمرمان 2006ب: 103).
وتؤكد الحركة الإيكولوجية النسوية على أن كل أشكال الاضطهاد مرتبطة معا ومن ثم يجب أن يكون هناك معالجة شمولية لبناءات الاضطهاد. بمعنى أخر ترى النسوية الإيكولوجية أن هناك رابط قد تطور بين هيمنة الرجال على الطبيعة وهيمنة الرجال على النساء، حيث أن دور السيد-العبد الذي يطبع علاقة الإنسان بالطبيعة يتكرر في علاقة الرجل بالمرأة، مما يتطلب دراسة اضطهاد بناءات القوة الأبوية لكل من العالم الطبيعي والنساء معا وبدون ذلك لا يمكن إيجاد حل لأي منهما. وفي هذا السياق تقول رويثر (Ruether):
يجب أن تدرك النساء أنه لا يمكن تحريرهن و لا حل الأزمة البيئية في مجتمع تظل علاقات النموذج الأساسي (بارادايم) فيه مبنية على الهيمنة. ولذا لابد من توحيد مطالب الحركة النسوية مع مطالب الحركة البيئية من أجل إعادة صياغة جذرية للعلاقات الاجتماعية الاقتصادية الأساسية والقيم المحددة لهذا المجتمع [الصناعي الحديث (Ruether 1975: 204).
وتزعم الحركة الإيكولوجية النسوية أن البناءات الأبوية تبرر هيمنتها من خلال فئات ثنائية من قبيل السماء/الأرض، العقل/الجسد، الذكر/الأنثى، الإنسان/الحيوان، الثقافة/الطبيعة، الروحي/المادي، الأبيض/غير الأبيض، وأن أنساق الاضطهاد القائمة تستمر في استعراض قواها المؤذية من خلال تعزيز افتراضات تلك التقسيمات، بل وحتى إضفاء القدسية عليها من خلال البناءات الدينية والعلمية. وتفترض النسوية الإيكولوجية أنه طالما بقي أي من تلك الثنائيات يمثل مكونا أساسيا للبناء الاجتماعي فسوف تستمر كلها كمنطلقات لتبرير الأبوية. ولذا يجب القضاء على كل أشكال الثنائيات والتضادات و إلا ستبقى الإنسانية منقسمة على نفسها.  ويقاوم أنصار هذه الحركة تقسيم الثقافة إلى تلك المجالات المنفصلة أو الثنائية المعيقة، حيث تؤكد كارين وارن (Warren 1997) في مقدمة كتابها Ecofeminism: Women, Culture, Nature  على:
أن ما يميز النسوية الإيكولوجية هو إصرارها على اعتبار الطبيعة غير البشرية  والتطبيع (مثلا الهيمنة غير المبررة على الطبيعة) قضايا نسوية. فالفلسفة الإيكولوجية النسوية تمد نطاق النقد النسوي المألوف لإيديولوجيات الهيمنة الاجتماعية ليشمل الطبيعة (Warren 1997: 4).
     
وبالتالي فإن أحد أهداف الحركة الإيكولوجية النسوية يتمثل في القضاء على النظرة إلى العالم المتمركزة ذكوريا، المسئولة عن السلوك الاستغلالي سواء كان موجها نحو النساء أو الطبقات الدنيا أو الحيوانات أو البيئة الطبيعية، وإزالة كل أشكال التمييز الجنسي الجائرة وخلق عالم لا يوّلد الاختلاف فيه هيمنة وتكون الأخلاق البيئية فيه هي "أخلاق إيكولوجية نسوية" وهذا يعني أن تحرير الطبيعة واستدامتها مرتبط مفهوميا بإنهاء الأبوية (Warren  1990:125-146).         
وقد شهدت حركة النسوية الإيكولوجية تطورات كبيرة خصوصا بعدما بدأت في مجابهة ظاهرة العولمة وتقييم الموقف المحوري للنساء في اقتصاد العالم. ويظهر ذلك بوضوح من خلال أعمال الكاتبة الهندية فاندانا شيفا ،التي تعتبر واحدة من أبرز تقاد التنمية في عصر العولمة. حيث تؤكد على أن الصيغ المهيمنة في التنمية هي استمرار لمشروع الهيمنة على الآخر (الطبيعة، النساء، والشعوب الأصلية، والطبقات الفقيرة)، وتنظر للتنمية باعتبارها تحولا في النزعة الاستعمارية من استعمار كلاسيكي اعتمد الإخضاع العسكري والاحتلال المباشر والبيروقراطية إلى تنمية استعمارية جديدة تحقق أهدافها بكفاءة أعلى من خلال النخب العميلة والتقنيات المتطورة. وتفترض هذه التنمية الاستعمارية الجديدة مسبقا، وفقا لشيفاShiva ، اختزال النساء والطبيعة كمواد استعمالية تؤثر فيها القوى التقنية والاقتصادية. ولا يقتصر هذا الاختزال على مجال الأفكار والقيم بل يتجاوزه إلى ممارسات مادية بهدف كبح غضب النساء وسلب قدراتهن. وتربط شيفا في كتابها المعنون Staying Alive: Women, Ecology and Survival in India، الذي يعكس الطبيعة العالمية المتنامية للنسوية الإيكولوجية خلال الثمانينات، بين "موت المبدأ الأنثوي" و "التنمية المشوهة " في العالم الثالث حيث تزعم أن:
التنمية المشوهة تؤثر سلبيا في هذه المساواة في التنوع، وتفرض بقوة الصورة المبنية إيديولوجيا للرجل الغربي التقني كمعيار منتظم لقياس قيمة الطبقات والثقافات والأنواع (الجنس).... مما جعل التنوع، فضلا عن الوحدة والانسجام فيه، أمرا غير ممكن ضمن إطار التنمية المشوهة، التي أصبحت مرادفة لتخلف النساء (تزايد الهيمنة الجنسية)، واستنفاد موارد الطبيعة(Shiva 1988: 83).      
أما الكاتبة الأسترالية ارئيل ساله  Sallehفتركز من جانبها على حجم عمل النساء وطبيعته ومستوى استغلال عملهن عالميا بأبخس الأجور، ومن ثم تلفت الانتباه إلى هذا الاستغلال على أساس جنسي بحيث أصبح النساء بنظرها طبقة بروليتاريا الحاضر، ومع ذلك ترى أن النساء قد قمن بدور مركزي في حركات العدالة البيئية في كل أنحاء العالم وتميز نشاطهن بالتزام عميق في الدفاع عن المجتمعات البشرية والبيئة الطبيعية(Salleh 1997: 6).       
وكما أشارت بكنهام Buckingham في مراجعتها لبروز وتطور هذا الفرع من الفكر البيئي، فإن القواعد الأساسية للنسوية الإيكولوجية- التي ترى أن للمرأة علاقة خاصة مع الطبيعة من خلال تكوينها الإحيائي (البيولوجي) يمكن ملاحظتها في مكونات عدد من المبادرات المعاصرة الأكثر شيوعا في حقل التنمية المستدامة التي حاولت إبراز قدر أكبر من الحساسية النوعية (gender). ولذلك فإن ما يمكن مثلا أن يفسر سطحيا على أنه توسيع لاقتراب الاستدامة الأضعف "العدالة البيئية" ليشمل البعد "النوعي"gender" يمكن أيضا تفسيره كبرهان على تأثير النسوية الإيكولوجية على الفكر الرئيس للتنمية المستدامة(Buckingham 2004: 146-154).
الاهتمام الدولي بالبيئة وتبني أجندة التنمية المستدامة
يعتبر مؤتمر الحكومات حول البيئة الإنسانية الذي انعقد في مدينة ستوكهولم في عام 1972م بداية اهتمام حكومات العالم بهذا الموضوع حيث تمخض عنه وثيقتان هما: إعلان ستوكهولم للمبادئ البيئية الأساسية التي ينبغي أن تحكم السياسة، وخطة عمل مفصلة فضلا عن إنشاء برنامج الأمم المتحدة البيئي United Nations Environmental Program (UNEP) كأول وكالة بيئية دولية (كالفرت و كالفرت 2002: 424).
وبرغم أن المؤتمر قد اعترف (في البند 21) بالحقوق السيادية للدول لاستغلال مواردها وفقا لسياستها البيئية الخاصة بها، إلا أنه طلب من الدول عند استغلال مواردها ضمان عدم استنزاف الموارد غير المتجددة، وحماية الموارد الطبيعية من خلال التخطيط الحذر لصالح الجيل الحالي والأجيال القادمة كما ورد في (البندين الثاني والخامس). ولتحقيق ذلك التغير وجهت الدول نحو "تبني اقتراب متكامل ومتناسق لتخطيطها التنموي لكي تضمن توافق التنمية مع الحاجة إلى حماية وتحسين البيئة" (انظر: البند 13). ولذا كان إعلان استوكهولم أول محاولة لتقييد حق الدول في استغلال مواردها الطبيعية وخاصة تلك المتسمة بطبيعة غير متجددة، بطريقة غير معيقة.         
وتبرز أهمية مؤتمر استوكهولم في أنه حدد علاقة مشتركة بين استنزاف الموارد بهدف التنمية وحماية البيئة، وهي علاقة تم تبنيها لاحقا في استراتيجية الحماية البيئية الدولية التي بلورت ولأول مرة مفهوم "التنمية المستدامة"، عندما أكدت على أنه "لكي تكون التنمية مستدامة فلابد أن تأخذ في الحسبان العوامل الاجتماعية والبيئية فضلا عن الاقتصادية."[2] وقد مثلت تلك الاستراتيجية بدورها الخلفية الإطارية لتقرير بروندتلاند الذي منح المفهوم شعبية واسعة ومهد الطريق أمام تبنيه بإجماع دولي منقطع النظير في مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية البيئية The United Nations Conference on Environment and Development (UNCED) ثم من خلال إعلان ريو وأجندة 21.[3]
ومع أن استجابة غالبية الحكومات لنداءات المهتمين بحماية البيئة كانت بطيئة جدا خلال العقد الذي أعقب مؤتمر ستوكهولم فضلا عن التقدم الضئيل الذي حدث في مجال البيئة، عندما تمت الموافقة في عام 1972م على المعاهدة الدولية للاتجار بالأحياء البرية النباتية والحيوانية المهددة بالانقراض Convention on International Trade in Endangered Species of Wild Fauna and Flora (CITES)، إلا أن قضية البيئة شهدت انتكاسة غير متوقعة في عام 1974م عندما تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة الوثيقة المتعلقة بحقوق وواجبات الدولCharter of Economic Rights and Duties of States (CERDS)   التي أكدت على "حقوق" الدول في التنمية، لكنها تحاشت أي إشارة للمعايير البيئية(كالفرت وكالفرت 2002: 425) . ومما زاد الطين بلة أن نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات قد شهدت تجاهلا واضحا للقضية البيئية في الدول الأكثر تقدما مع تأكيد حكوماتها المتزايد على "حلول" السوق الحرة، بالتزامن مع تخلي تلك الدول عن مسئوليتها عن النتائج البيئية السلبية للعمليات الاقتصادية. ولذا يمكن القول بأن الاتجاه السائد في تلك المرحلة كان بعيدا عن أي إجماع دولي تجاه قضايا البيئة.
وبقي الأمر هكذا حتى جاءت نقطة التحول الحاسمة في عام 1983م عندما طلب الأمين العام للأمم المتحدة من رئيسة وزراء النرويج آنذاك، جرو هارلم بروندتلاند Gro Harlem Brundtland تشكيل لجنة للبحث عن أفضل السبل التي تمّكن كوكبنا الذي يشهد نموا سكانيا متسارعا من أن يستمر في الإيفاء بالاحتياجات الأساسية من خلال صياغة افتراضات عملية تربط قضايا التنمية بالعناية بالبيئة والمحافظة عليها، وترفع من مستوى الوعي العام بالقضايا ذات الصلة بالموضوع. ومع نشر الوكالة (التي أصبحت تعرف بالوكالة العالمية للبيئة والتنمية، والمعروفة اختصارا WCED ) لتقريرها " مستقبلنا المشترك"Our Common Future" في عام 1987م، الذي جاء متزامنا مع الصدمة البيئية الأكبر للرأي العام العالمي المتمثلة في اكتشاف ثقب الأوزون "ozone hole" فوق القارة المتجمدة الجنوبية والتي دفعت إلى الاتفاق في نفس العام على بروتوكول مونتريال لمعاهدة فينا حول حماية طبقة الأوزون بهدف تنظيم استخدام وإطلاق المواد المستنفدة للأوزون مثل غازات الكلوروفلوروكربون (CFCs) والهالون Halons، أصبح مفهوم "التنمية المستدامة أو المتواصلة Sustainable Development" مفهوما محوريا للتفكير المستقبلي(كالفرت وكالفرت 2002: 425) . ومن ثم يمكن القول أن هذه التطورات المقلقة والشعور بأن بقاء البشر ومصيرهم مرتبطان ببقاء ومصير الكائنات الحية الأخرى وكذلك باستمرار كوكب الأرض ومنظوماته مكاناً صالحاً للحياة، فضلا عن الإدراك العالمي بمدى ما وصلت إليه الأمور من سوء منذ عام 1973م قد أسهمت بشكل مباشر في انعقاد أول قمة بيئية عالمية من نوعها هي قمة الأرض في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية عام 1992م.
وتكمن أهمية أول قمة للأرض في ريو في أنها قد وضعت حجر الأساس لرؤية عالمية جديدة عن البيئة محولة الأجندة الكونية إلى التنمية المستدامة من خلال إثارة اهتمام الرأي العام العالمي بالعلاقة المتبادلة بين الأبعاد البيئية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية للتنمية، كما مهدت الطريق أمام مفهوم التنمية المستدامة لاختراق الخطاب الاقتصادي والسياسي. ففي تلك القمة ألزم المجتمع الدولي نفسه بمفهوم التنمية المستدامة وقام بالفعل بصياغة قانون دولي بيئي، فمثلا تلزم مادة 27 من إعلان ريو حول التنمية والبيئة الدول والشعوب بتطوير "قانون دولي في مجال التنمية المستدامة"، كما تنعكس الخطوط العريضة لطبيعة ومحتوى القانون الدولي في مجال التنمية المستدامة بشكل واضح في اتفاقيتين تم تبنيهما في مؤتمر الأمم المتحدة عن البيئة والتنمية UNCED، وهما اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية حول التغير المناخي واتفاقية التنوع البيئي اللتان تمثلان أدوات قانونية دولية لمعالجة المسائل الاقتصادية والبيئية بأسلوب متكامل (Sands 1995: 53).
فقد تم الاعتراف بأهمية التنمية المستدامة وعلاقتها بالتغيرات المناخية ضمن الاتفاق الإطاري للأمم المتحدة بشأن التغير المناخي الذي يهدف أساسا إلى العمل على استقرار تركز الغازات الدفئية GHGs في الغلاف الجوي. حيث يشير البند الرابع من المادة الثالثة إلى أن:
للأطراف حق تعزيز التنمية المستدامة وعليها هذا الواجب. وينبغي أن تكون السياسات والتدابير، المتخذة لحماية النظام المناخي من التغير الناجم عن نشاط بشري، ملائمة للظروف المحددة لكل طرف، كما ينبغي لها أن تتكامل مع برامج التنمية الوطنية، مع مراعاة أن التنمية الاقتصادية ضرورية لاتخاذ تدابير لتناول تغير المناخ (أنظر: اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ 1992).
كما ألزمت أطراف الملحق 1 من الاتفاق الإطاري أنفسها في بروتوكول كيوتو 1997م بالمستويات المحددة للانبعاث بهدف تثبيت انبعاث الغازات الدفئية وتعزيز التنمية المستدامة (كما تشير المادة 2 من بروتوكول كيوتو). ومع مصادقة روسيا عليه في 2005م بدأ العمل بالبروتوكول وبدأت بعض الأطراف بالفعل في سن تشريعات ومعايير قومية للإيفاء بالتزاماتها تجاه البروتوكول، من خلال وضع حدود قومية قصوى لمستويات الانبعاث فضلا عن أنشاء نظم تبادل الانبعاث.[4]
        ومع أن البروتوكول يتضمن آليات قضائية واقتصادية من أجل مواجهة موضوع إيقاف أو لجم انبعاث الغازات إلا أن تقديمه لأدوات اقتصادية مثل تبادل الانبعاثات وعدد أخر من الوسائل المرنة (كما تشير الفقرات 12،11،10 من المادة الثالثة من بروتوكول كيوتو 2005) قد تسبب في ظهور مقايضات عالمية من أجل الحصص التبادلية، وحقوق الانبعاث، ونشوء سوق جديدة بالكامل للتلوث. فنظرا للعواقب الاقتصادية لنظام التغير المناخي تتفاوض البلدان وفقا لمصلحتها الذاتية بحيث أن كلا منها يميل إلى افتراض المؤشرات الأكثر فائدة لمصالحها الذاتية(Grubb 1998, 140-146).
وتعتبر الآثار الاقتصادية للمناخ المرتبطة بالتنظيم حاسمة نظرا لأن الخفض الكوني للغازات الدفئية يمس جوانب حساسة مثل الصناعة، والطاقة، والمواصلات في كل من الدول المتقدمة والنامية. ومع أن خفض مستويات التلوث والحفاظ على الرواسب الكربونية الطبيعية مرتبطان معا بالإطار الأوسع للتنمية المستدامة، إلا أن التركيز على مستويات الانبعاث كان أكثر حضورا نظرا لهيمنة مصالح البلدان الصناعية. وبرغم أن الروابط بين التنمية المستدامة والتغير المناخي قد استقطبت اهتماما متزايدا إلا أن هناك قيودا وعقبات متأصلة فيما يتعلق بتطوير اقتراب عملي يدمج بين إيقاف التغير المناخي وتعزيز التنمية المستدامة. وبرغم أن كل المحاولات التي تمت في هذا المجال قد أدعت أنها متطابقة مع الهدف الأساس للميثاق إلا أنه أصبح واضحا أنه حتى السؤال الأكثر أساسية والمتعلق بكيفية التوفيق بين التنمية الاقتصادية وحماية الغلاف الجوي للأرض بقي دون إجابة إلى حد كبير.
        ويمكن القول بأن هناك عائقان في طريق إيجاد نظام فعال للتحكم في التغير المناخي. يتمثل أولهما في أن إيجاد مثل ذلك النظام يتطلب حدوث تغيير ما في المفهوم التقليدي لسيادة الدولة إلا أنه كان واضحا في المفاوضات خلال المؤتمرات أن مبدأ سيادة الدولة لا يزال مهيمنا وهذا يعني أنه لا يلزم أن تعلن أي دولة صراحة التزامات محددة بل أن الدول حرة في رفض أو قبول التزامات المعاهدة.
        أما العائق الثاني فيتمثل في الخلاف العميق في الآراء بين الدول المشاركة فيما يتعلق بالمعايير المطلوبة والطريقة التي من خلالها يتم توزيع المسئولية. ويعكس اتفاق الإطار هذه الاختلافات من خلال استهداف كل من الحماية البيئية وتشجيع التنمية الاقتصادية. فمن خلال السعي لتحقيق الهدف الجوهري للاتفاق الإطاري تدفع الفقرة الثالثة من المادة الثانية من بروتوكول كيوتو بهذا الاختلاف قدما، فمع أن البروتوكول يهدف إلى الحد الكمي لانبعاث الغازات الدفئية GHGs إلا أنه يؤكد من جهة أخرى على الحاجة لتقليص الآثار السلبية لتلك السياسة على التجارة الدولية فضلا عن الآثار الاقتصادية والاجتماعية الأخرى(كما ورد في بروتوكول كيوتو 2005).
        وتبعا لهذه الطبيعة الواسعة وغير المحددة لاتفاقية الإطار وهدف البروتوكول فقد منحت الدول المعنية قدرا واسعا من الحرية فيما يتعلق بكل من التفسير والتطبيق. فمع أن الامتثال لاتفاق الإطار يتطلب من الحكومات الوطنية أن تجري بعض التعديلات على سياساتها الوطنية وخاصة في مجالي الطاقة والمواصلات، إلا أن الغموض المحيط بمفهوم التنمية المستدامة يفتح الباب واسعا لاحتمالات المزاعم الاقتصادية حول التكلفة، والفعالية، والتفاؤل التي توظف بشكل مهيمن لرفض أو تأجيل تطبيق سياسات الحد من الانبعاث. وهذه هي الذريعة التي دفعت الكونجرس الأمريكي لرفض المصادقة على بروتوكول كيوتو مما جعل البرنامج البيئي العالم يبكامله في مهب الريح.  وحتى في الحالات التي يتم فيها التطبيق ضمن النظم القضائية الوطنية فإن القوانين تبقى ضعيفة، مع منحها الأجهزة الإدارية الوطنية المختلفة، مثل الوزارات ووكالات السيطرة على التلوث ووكالات مقايضة التلوث قدرا واسعا من حرية الاختيار فيما يتعلق بالتفسير أو التطبيق.
ومع أن مفهوم التنمية المستدامة كان يمثل المحور الأساس للنقاش في قمة الأرض الثانية حول التنمية المستدامة التي انعقدت في جوهانسبرج في أغسطس من عام 2002م وحضرها ممثلون لأكثر من 160 بلدا، بهدف إزالة التناقضات بين التنمية الاقتصادية وحماية البيئة فضلا عن تطوير مزيد من الاتفاقيات في مجال التنمية المستدامة، إلا أن التوقعات منها كانت، وبعكس قمة ريو التي عقدت في 1992م، أقل من المتوقع ثم جاءت النتائج مخيبة للآمال. حيث لم يقتصر الإخفاق على الفشل في التوفيق بين التنمية الاقتصادية وحماية البيئة بل تجاوزه إلى تأكيد عدد كبير من الدول المشاركة، صراحة أو ضمنا، باستحالة تجنب حدوث المزيد من التدهور في الأنساق البيئية للأرض والماء وارتفاع مستويات انبعاث الغازات الدفئية Greenhouse Gases والاستغلال المفرط للموارد الطبيعية. ويلاحظ، في هذا السياق، أنه برغم الالتزام الكوني بالعمل على استقرار تركز تلك الغازات في الجو إلا أن جزءا ضئيلا فقط من إنتاج الطاقة العالمي اليوم يستند إلى استخدام مواد غير عضوية. ومن ثم يمكن القول أن تزايد وتيرة التدهور البيئي الكوني فضلا عن تزايد معدلات الفقر وتفاقم حال فقراء العالم تشير جميعها إلى حالة ركود في ممارسة أنماط إنتاجية واستهلاكية مستدامة.         
ولا يزال الجدال مستمرا. ففي الوقت الحاضر تهيمن الاعتبارات الاقتصادية على أجندة الاستدامة الدولية والوطنية على حد سواء، مما يجعل مسألة حماية البيئة تحتل موقعا هامشيا. فبينما تستمر معدلات صافي الدخل القومي للبلدان الصناعية في النمو وتستمر الشركات عبر القومية في التوسع تتفاقم الضغوط على الأنساق البيئية الطبيعية والموارد. وبدلا من مواجهة تحدي تطوير أسلوب مستدام للحياة يستطيع تلبية احتياجات الناس الأساسية في كل مكان دون القضاء على الأنساق البيئية، يتركز الاهتمام في الوقت الحاضر على تحقيق مزيد من النمو الاقتصادي دون الاعتراف بمحدودية الموارد الطبيعية. إن هيمنة المصالح الاقتصادية و "النمو من أجل النمو فقط"، كما يؤكد ليستر براون، قد تغلغل في كل أنحاء الكرة الأرضية(Brown 1998: 4).
ويمكن القول باختصار أن العالم قد بدأ بالفعل وبصعوبة طريقه تجاه التنمية المستدامة خلال العقد الأول بعد قمة ريو، كما باشر عدد من الحكومات بحماس التزاماتها تجاه توصيات القمة وتنفيذ ما ورد في إعلان ريو وأجندة 21، إلا أن الإنجازات التي تحققت كانت بشكل عام غير كافية ولا يزال هناك الكثير الذي يجب القيام به لمواجهة التحديات المختلفة والمتعددة التي تواجه الحياة المستدامة على كوكب الأرض.
خلاصة
برغم أن الصورة القاتمة للوضع البيئي في سبعينات القرن الماضي قد أسهمت في دفع الاتجاه الرئيس والمعتدل في الحركة البيئية لممارسة الضغط على الحكومات مع توظيف جهد أكبر في مجال الحلول التقنية للمشاكل البيئية، إلا أن ألاتجاه الثوري لم يكن مقتنعا بجدوى تلك الحلول التقنية حيث أعتبر أنصاره أن الأزمة البيئية هي نتيجة لأزمة القيم السائدة "قيم الحداثة"ومن ثم اعتقدوا بأن المفتاح لتحول بيئي اجتماعي يتمثل في إحداث تغير جذري في منظومة القيم السائدة (خاصة التراتبية، والهيمنة، والأداتية) يؤدي إلى بروز نموذج إرشادي مهيمن جديد ينهي ممارسة الهيمنة –على الناس والطبيعة- في العلاقة بين الطبيعة والبشرية ومن ثم بين الإيكولوجيا والمجتمع. ومع أن أنصاره يرون أن الإصلاح التقني في المجتمع الصناعي ضروري إلا أنهم يعتقدون أنه سيكون فاعلا فقط عندما يصاحب بتغير قيمي. وبرغم الاختلافات في وجهات النظر بين أنصار هذا المذهب إلا أنهم يتفقون جميعا على أن المذهب البيئي - وخاصة من خلال خطاب التنمية المستدامة المهيمن عليه حاليا- لا يهتم بالاعتبارات التوزيعية الملحة للأزمة البيئية، وأن التنمية المستدامة تعالج الأعراض بدلا من الأسباب.
ومع ذلك فإن خطاب التنمية المستدامة السائد اليوم يستند بشكل أكبر على المذهب البيئي المعتدل أو الإصلاحي، حيث كان واضحا منذ بداية ثمانينات القرن الماضي أن الجناح المعتدل أو المذهب البيئي قد كسب بالفعل المعركة على مستقبل السياسة البيئية خصوصا من خلال آلية التنمية المستدامة. فعبر التنمية المستدامة نجحت الحركة الخضراء المعتدلة في وضع القضايا البيئية على الأجندة السياسية في وقت قصير نسبيا وجعلت التنمية المستدامة تصنع في الوقت الحاضر معظم السياسة البيئية المعاصرة. وتعكس هذه السياسة وجهة النظر العامة بأن هناك حاجة لموازنة التنمية الاقتصادية مع مطالب الاستدامة الإيكولوجية والاجتماعية. فالتنمية المستدامة تتطلب أن تأخذ النشاطات الاقتصادية في الاعتبار الآثار البيئية والاقتصادية والاجتماعية المتداخلة الناتجة عنها من أجل الجيل الحالي والأجيال القادمة.              

خاتمة
مع تنامي اهتمام وسائل الإعلام بالقضايا البيئية أصبح الرأي العام أكثر اهتماما بإيجاد حلول لمشاكل من قبيل انقراض الكائنات الحية، والتغير المناخي، والتلوث والعمل على خلق مجتمع مستدام بيئيا. وقد بدا واضحا لهذه الدراسة أن عملية التحول إلى التنمية المستدامة لحماية المجال الحيوي للأرض تتطلب جهود كل المجتمع الإنساني فهي مطلب مبرمج ويجب أن ينجز من قبل الجميع وبلا استثناء. ولذا لابد من الانطلاق من النتيجة التي خلص إليها تقرير نادي روما بعنوان The First Global Revolution، الذي تبنى كتّابه النظرة القائلة أن مشكلة التنمية الحالية هي في حالات عديدة متداخلة وأكدوا فيه أن مشاكل البيئة، والطاقة، والسكان، والتنمية، ومصادر الغذاء، تمثل قضايا متداخلة ضمن إطار المشاكل الكونية، وأن جوهر تلك المشاكل يتمثل في حالة عدم التيقن تجاه مستقبل الإنسانية. ونظرا لأهمية التداخل بين تلك المشاكل، فإنه لا معنى لمواجهة كل عنصر منها منفردا، بل لابد من مواجهة متزامنة لكل تلك المشاكل في إطار إستراتيجية دولية منسقة، وأن نجاح أو فشل أول ثورة كونية يعتمد بشكل حاسم على هذا الأمر. فعلى سبيل المثال لا يمكن إيجاد حل ملائم للأزمة السكانية في العالم إلا إذا تم إيجاد حل ملائم لظاهرة الفقر المتفاقمة، كذلك ستستمر ظاهرة انقراض الكائنات الحية من حيوان ونبات بمعدلات مريعة طالما بقي العالم النامي غارقا في الديون، وفقط عندما يتم وقف تجارة السلاح الدولية يمكن أن يتوفر للعالم الموارد اللازمة لإيقاف التدهور الخطير للمجال الحيوي والحياة الإنسانية. وفي الحقيقة فإنه كلما درسنا وحللنا الموقف كلما زاد إدراكنا في نهاية الأمر بأن المشاكل البيئية المتعددة ليست إلا وجوه مختلفة لأزمة واحدة ووحيدة، هي بالتأكيد، أزمة إدراك تنبع من حقيقة أن معظم الناس وخاصة المؤسسات الاجتماعية الكبيرة في الدول المتقدمة تتبنى مفاهيم (لم تعد ملائمة لمعالجة مشاكل عالم  اليوم) نموذج الحداثة الذي هيمن على الثقافة الصناعية الغربية لقرون من الزمن تمكن خلالها من صياغة المجتمع الحديث وأثر بشكل كبير في كل أنحاء العالم من خلال فرضه لعدد من الأفكار والقيم كالنظرة للعالم كنسق أو نظام ميكانيكي مؤلف من عناصر بناء أولية، والنظرة لجسم لإنسان كألة، والنظرة للحياة في المجتمع كصراع تنافسي من أجل البقاء، والإيمان بالقدرة على تحقيق تقدم مادي غير محدود من خلال النمو الاقتصادي والتقني.
فضلا عن ذلك لا يزال كثير من المفكرين الغربيين ينظرون للتنمية المستدامة بطريقة براغماتية لا على أنها وسيلة لتحقيق توازن استراتيجي بين الطبيعة والمجتمع وإنما كمحاولة لإزالة جزء من التوتر في العلاقة المتداخلة بين الحضارة وبيئتها. وبرغم أن مجرد نضال المجتمع العالمي للانتقال من مرحلة النقاش النظري حول الكارثة البيئية إلى مرحلة وضع خطط عملية نحو إزالة ذلك التوتر يمثل جانبا ايجابيا، إلا أنه يجب في نفس الوقت الاعتراف بأن غياب فهم أو رؤية واضحة حول التوجه العام لحركة الحضارة في المستقبل يمثل جانبا سلبيا من مشروع التنمية المستدامة.
من هذا المنطلق، ترى هذه الدراسة أن العالم بحاجة إلى تنمية مستدامة ومتوازنة تركز مبدأ الوقاية بدلا من العلاج. وهذا يعني أن الاستدامة ليست فقط مسألة بيئية، بل أنها تتعامل مع التغيرات والمشاكل في المجالات الزراعية والبيئية والاقتصادية والاجتماعية، مما دفع بعض المهتمين بهذا الشأن أن يطلقوا على حركة الاستدامة هذه "الثورة البيئية" مقارنة لها بالثورتين الزراعية والصناعية اللتين كان لهما تأثيرا تاريخيا هائلا على الثقافة الإنسانية الكونية.[5]
ولذا فإن الاستدامة هي فلسفة برؤية جديدة للبحث عن بناءات اجتماعية، ونشاطات اقتصادية، وأنماط إنتاجية واستهلاكية، وتقنيات تعمل على استدامة البيئة وتمكين الجيل الحالي وتحسين حياته وضمان حياة ملائمة للأجيال القادمة. ولتحقيق ذلك لا بد من إعادة صياغة النشاطات الحالية أو ابتكار أخرى جديدة ثم العمل على دمجها في البيئة القائمة لخلق تنمية مستدامة على أن تكون مقبولة ثقافيا، وممكنة اقتصاديا، وملائمة بيئيا، وقابلة للتطبيق سياسيا، وعادلة اجتماعيا. ومن ثم فإنه من الملائم البدء مباشرة في تبني عدد من الممارسات الداعمة لاستدامة البيئة ومنها:
·  استهلاك الموارد باعتدال وكفاءة ومراعاة الأسعار الأفضل للموارد، والاستخدام الأكثر كفاءة للموارد، والأطر الزمنية لاستبدال الموارد غير المتجددة بموارد بديلة، والاستخدامات البديلة المحتملة للموارد.
·  عدم استهلاك الموارد المتجددة بوتيرة أسرع من قدرتها على التجدد أو بطريقة يمكن أن تؤذي البشر أو النظم الداعمة للحياة على الأرض وخاصة تلك التي ليس لها بدائل.
·     التوسع في مجال الاعتماد على الطاقة النظيفة المتجددة كالطاقة الشمسية والطاقة المائية وطاقة الرياح.
·  استخدام الفضلات التقليدية كموارد قدر الإمكان مع التخلص منها عند الحاجة وبطريقة لا تضر بالبشر ونظم دعم الحياة على الأرض.
·     النضال من أجل التخلص من المبيدات السامة والمخصبات الكيميائية وخاصة تلك التي تعتبر ضارة بالبيئة.
·     استخلاص منتجات النسق البيئي كما في الزراعة، والصيد، والاحتطاب بدون الإضرار برأس المال الطبيعي.
·  تشجيع المرونة والكفاءة في كل من النسقين الإنساني والطبيعي من خلال تفضيل البستنة المتجددة، والمتنوعة، والمعقدة على تلك المتسمة بالتجانس والبساطة.
·  تفضيل الفلاحة التعددية (زراعة الأرض بمحاصيل متعددة) polyculture على الفلاحة الأحادية (الاكتفاء بزراعة محصول واحد) monoculture للإبقاء على خصوبة التربة، فضلا عن تفضيل زراعة النباتات طويلة العمر على السنوية منها في أنساق الإنتاج البيولوجي قدر الإمكان (كالفرت وكالفرت 2002: 138) .
·  إعادة تأهيل البيئات المتدهورة قدر المستطاع من خلال وسائل التحكم أو بخلق ظروف ملائمة لعمليات إعادة الإصلاح الطبيعي.      
·     تشجيع ودعم عمليات إعادة تدوير النفايات.
·     تبني مبدأ تغريم الملوث من خلال سن تشريعات عقابية على المستويات المحلية والقومية والدولية.
وختاما نعود إلى التأكيد على أنه برغم أن مفهوم التنمية المستدامة قد لقي قبولا واستخداما دوليا واسعا منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي إلا أن العالم لم ينجح حتى الآن في تبني خطوات حقيقية جادة على طريق الاستدامة الحقيقية نحو التوفيق بين تلك التناقضات بين التنمية والبيئة الناتجة عن نموذج التنمية المهيمن منذ منتصف القرن العشرين مما يجعل البشرية تواجه مستقبلا محفوفا بالمخاطر وعدم التيقن. ومن هنا، تخلص هذه الدراسة إلى  أن التحول نحو الاستدامة المنشودة لا يبدو ممكنا بدون حدوث تغير رئيس وجذري على مستوى النموذج المعرفي السائد بعيدا عن قيم الحداثة، والاستعلاء، والاستغلال المتمركز حول الإنسان باتجاه بلورة نموذج معرفي جديد يتصف بالشمول ولا يتمركز حول الإنسان وينظر للعالم كوحدة كلية مترابطة بدلا من أن يكون مجموعة متناثرة من الأجزاء، ويمكن من خلاله دمج جهود التنمية المستدامة وجهود الحفاظ على البيئة بطريقة مفيدة للطرفين من أجل الصالح العام للجيل الحالي والأجيال القادمة على السواء، وأن يكون ذلك التحول مصحوبا باهتمام بالبناءات السياسية الاجتماعية التي يمكن أن تكون أكثر دعما للاستدامة. وأخيرا نرجو أن تسهم هذه الدراسة في استثارة مزيد من النقاش والدراسات حول أهمية الفكر والسياسة في البحث عن طريق ممكن تجاه الاستدامة.